ماهو العفو؟؛ ماهي آثاره ؟، وماحاجتنا إليه ؟
من المعلوم إنّ القرآن الكريم هو كتاب الحياة، وكلّما استطاع الإنسان أن يتقرب من هذا الكتاب علماً وعملاً، ازداد حيويّة ونشاطاً، واستطاع استيعاب المعاني الحقيقية للحياة، ذلك لأنّ الحياة على درجات؛ فهناك من الأحياء من هو ميّت، كما
إنّ هناك من الأموات من هو حيّ يرزق.
إنّ الإنسان الجاهل كلّما توغّل وأمعن في جهله كلّما توغّل في الموت، وعلى سبيل المثال فانّ الإنسان الذليل كلّما كانت ذلّته أكثر شمولاً لكيانه، كلّما كان الموت هو الصبغة الطاغية عليه.
والفقر، والذلّ، والجهل، كلّ ذلك هو من علامات الموت، في حين إنّ العلم والعمل الصالح هما من علامات وآيات الحياة، والقرآن الكريم يزيدنا حياة لأنّه يزيدنا عزّاً ونشاطاً وعملاً.
العفو وصيّة القرآن الكبرى
ومن أهم الوصايا التي أوصانا بها الخالق جلّت قدرته، والتي أكّد عليها في كثير من المواضع، أنّه قد أوصانا بأن يعفو بعضنا عن البعض الآخر. فما هو العفو، وما هي الفوائد التي ترتجى من هذه الصفة، وما هي الحكمة من ورائها؟
للعفو حدود
في البدء لابدّ أن نقول أنّ العفو له حدود، فلا يجوز العفو عن الظالم إن كان هذا العفو يزيده تجبّراً على الله تعالى وظلماً للعباد. فهذا ليس من العفو في شيء، فان قال الضعيف إنّني أعفو عن القويّ، فانّ عمله هذا لا يسمّى عفواً، بل هو ذلّ وصغار وحقارة؛ بل العفو أن تصفح عمّن هو مثلك، أو دونك، ولذلك أكّدت الأحاديث على ضرورة العفو عند المقدرة. فعندما يكون الإنسان المؤمن مقتدراً، فان صفة العفو لابدّ أن تتجلّى عنده، لأنّه سيعفو عن الإنسان الذي هو دونه في حين إن يده هي العليا، وهو قادر على أن يأخذ حقّه.
فلسفة العفو
إنّ فلسفة العفو ليست دفع الإنسان الى التمادي في الجرائم، أو ترك حدود الله سبحانه وتعالى، بل إنّ فلسفته الحقيقيّة محاولة إبعاد جوّ الذنب والجريمة عن المجتمع، وبناء على ذلك فان الدين الإسلامي يتوخّى تحقيق عدّة أهداف منها: القضاء على الذاتيات والأنانيّات؛ فمن المعلوم أنّ النسبة الأكبر من الصراعات الاجتماعية منشؤها حبّ الذات، والجري وراء المصالح الذاتيّة. فتفكير كلّ إنسان في مصلحته يسبّب حالة نموّ الصراعات، في حين أنّنا بحاجة إلى تآلف القلوب وتحاببها وصفائها، وبحاجة إلى أن لا تقوم بيننا حجب الضغائن والأحقاد وسوء الظنّ لكي نستطيع أن نتعاون في سبيل تحقيق أهدافنا. فعندما تكون في قلب الإنسان المؤمن تجاه أخيه المؤمن الأحقاد والضغائن، فانّ قدرته على التآلف والتعاون ستنخفض الى الصفر. فمن طبيعة الإنسان أنّه إذا أحبّ أحداً، فانّه يحبّ أن يلتقيه، ويتحدّث إليه، ويتعاون معه. أمّا إذا كان قلبه مشحوناً بالضغينة والحقد تجاه أخيه، فانّه سوف لا يستطيع أن يتعاون معه؛ بل لا يكون بمقدوره أن يندفع في العمل. فالإنسان إنّما يعمل بنشاط عندما يكون قلبه نقيّاً، أمّا إذا كان مشغولاً بإضمار الحق للآخرين والبغضاء وخوض الصراعات الاجتماعية، فانّ هذه الحالة سوف لا تشجّعه على القيام بالمزيد من العمل.
وعلى هذا فانّ القلب المتشتّت والمشحون بالهموم المختلفة لا يمكن لصاحبه أن يركّز في تفكيره، ويخرج بنتيجة إيجابية من هذا التفكير. أما الإنسان الذي يحظى بالتشجيع على العمل الصالح من قبل الأشخاص المحيطين به فانّه سوف يجد في نفسه إندفاعاً الى القيام بالمزيد من هذا العمل. وعلى العكس من ذلك الإنسان الذي يواجه التثبيط والتهم من قبل أفراد مجتمعه والمقرّبين إليه، فانّه سوف يُشغل فكره بهذه الموقف السلبيّ تجاهه، وبالتالي فان قدرته على العمل سوف تنخفض الى حدّ كبير.
ولذلك؛ فانّ القرآن الكريم يأمرنا بالعفو، لأن الإنسان يعيش عادة حالة التوهّم بأنّه مظلوم، وأنّ الآخرين يحقدون عليه، ويهضمون حقوقه.. وهذا هو أحد الأساليب التي يستخدمها الشيطان لشلّ قدرة الإنسان على العمل، ولذلك ترى هذا الإنسان يفكّر دائماً في نفسه، ويتصوّر أنّه أكبر مما يراه الآخرون.
أمّا الإنسان المؤمن فانّه يطلب من الله تعالى دائماً أن لا يرفعه بين الناس إلاّ ويضعه عند نفسه بقدر تلك الرفعة. فهو ينظر الى نفسه بحيث يراها أقلّ من حجمها، فلا يصاب بحالة التكبّر، وقد جاء في دعاء كميل في هذا المجال: "اللهم إنّي أسألك سؤال خاضع متذلل خاشع أن تسامحني وترحمني وتجعلني بقسمك راضياً قانعاً وفي جميع الأحوال متواضعاً". فالإنسان المؤمن يطلب من الله جل وعلا أن يرزقه صفة التواضع في جميع الأحوال.
ومع ذلك فانّ الغالبية العظمى من الناس يزعمون أنّهم أكبر من حجمهم، فيتوهّمون أنّ الآخرين يهضمون حقوقهم ويظلمونهم ويسلبون منهم المناصب والمراكز التي من المفروض - حسب زعمهم - أن يشغلوها... ومن أجل أن يعالج القرآن هذه الحالة فانّه يحثّ الإنسان على العفو عن الآخرين إن كانوا حقّاً قد ظلموه. وعندما ينمّي الإنسان هذه الخصلة في نفسه، فانّ قلبه سيبقى محافظاً على صفائه ونقائه، فلا يكون فيه حقد على الآخرين.. وبالتالي سيندفع نحو العمل، وتكون سجيّته العفو والصفح والتغاضي عمّا يرتكبه الآخرون بحقّه. وفي هذه الحالة فانّ الله جلّت قدرته سيلقي محبّته في قلوب الآخرين، فهو تعالى الذي يؤلّف بين قلوب المؤمنين، وهو الذي يجعل المحبّة بين القلوب المتنافرة.
العفو والنشاط الجسميّ
إنّ من المستحبّ في صلاة الليل أن يدعو الإنسان لأربعين مؤمناً بأسمائهم، فعندما يدعو لهم في جوف الليل حيث يشعّ قلب الإنسان إيماناً، فانّ المؤمنين بدورهم سوف يدعون له. وهكذا ستسود المحبة أفراد المجتمع، وعندما تزداد القلوب المتحابّة المتآلفة فانّها سوف تستطيع أن تصنع المعجزات. وبالإضافة الى ذلك فانّ القلب عندما يكون نقيّاً طاهراً خالصاً من الأحقاد، فانّ صاحبه سيكون في حالة راحة واطمئنان نفسيّين على الدوام. فلقد أثبت علم النفس الحديث أنّ خمسين بالمائة من حالات التعب والارهاق، إنّما هي نتيجة امتلاء القلب بالهموم والمشاغل والصفات الأخلاقية السلبيّة التي سبقت الإشارة إليها.
وهكذا؛ فانّ الإسلام إنّما يأمرنا بالعفو لأنّ الإنسان عندما يكون ديدنه العفو والصفح عن الآخرين فانّ قلبه سيكون نقيّاً مطمئناً، ولا يمكن أن يصاب بالتعب والارهاق، لأن الإرهاق يظهر نتيجة للحالات النفسيّة المتمثّلة في الحزن والغمّ لا نتيجة لعمل الجسم.
العفو موجب للعـزة
وبالإضافة إلى ذلك فانّ (العفو) يكون موجباً لعزّة الإنسان كما روي عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "عليكم بالعفو فانَّ العفو لا يزيد العبد إلاّ عزّاً فتعافوا يعزّكم الله".
فاذا ما عفا أحدنا عن الآخر، سيتحوّل المجتمع الى مجتمع عزيز. فعندما يعفو بعضنا عن البعض الآخر، فانّ أعمالنا سوف تسمو، وتكون أفضل، وبالإضافة إلى ذلك سيكون المجتمع مجتمعاً متماسكاً. وعلى العكس من ذلك فعندما يكون المجتمع منشقّاً على نفسه، وتسوده الصراعات الداخليّة، وتنخر في كيانه، فانّه لا يلبث أن يتحوّل الى مجتمع ذليل، لأنّ صراعاته كلّها سوف تكون متجهة الى نفسه بدلاً من أن تكون متّجهة الى العدوّ.
إنّنا إذا أردنا أن يعفو الله تعالى عنّا، فانّ علينا أن نعفوا عن إخواننا المؤمنين.
فالانسان المؤمن عندما يتّخذ موقف العفو عن أخيه المؤمن، يجدر به أن يعلم بأنّ الله عز وجل أولى بالعفو منه".
وللأسف؛ فانّ هناك البعض ممّن هو غير مستعدّ مطلقاً لأن يعفو عن الآخرين، فتراه لا ينسى الأخطاء والذنوب التي ارتكبت بحقّه، فيفكّر فيها، ويعاني منها حتّى تتحوّل الى عقدة في نفسه. في حين إنّه لو فكر وتأمّل قليلاً، فانّه سرعان ما يكتشف أنّ الأذى النفسي الذي سبّبه لنفسه بسبب التفكير في تلك الأخطاء هو أكبر بكثير من الآلام النفسيّة التي يعاني منها بسبب عدم صفحه عن الآخرين، وتفكيره غير المجدي في المواقف السلبيّة التي بدرت منهم إزاءه، وبالاضافة الى ذلك؛ فانّ تغاضيه عن أخطاء الآخرين من شأنه أن يجعل قلبه نقيّاً طاهراً، ومن شأنه أيضاً أن يقلّل من مشاكله.
العفو عند القدرة
والعفو - كما أشرنا إلى ذلك - ترتفع قيمته عندما يكون في موضع القدرة، وخصوصاً إذا كان هذا العفو صادراً من الحاكم والممسك بزمام أمور المجتمع؛ فهو إن أخذ الناس بالعنف والشدّة فانّهم سوف لا يحتملون ولا يطيقون شدّته، وبالتالي فانّهم سوف يثورون عليه، فلا يمكنه أن يحكمهم ويسيطر عليهم.
والرسول صلى الله عليه وسلّم إنّما استطاع أن يملك الجزيرة العربيّة، بل وقلوب جميع المسلمين في أنحاء الأرض بعفوه وصفحه وتسامحه.
فمن المعروف أنّ قبيلة قريش شنّت حروباً عديدة ضدّه صلى الله عليه وسلّم ، وكانت هذه الحروب حروباً شرسة وقاسية، وكانت ممارساتهم ضدّ النبي صلى الله عليه وسلّم قبل الهجرة ممارسات وحشيّة غير إنسانية، وقد بلغت هذه الممارسات ذروتها من القسوة والوحشيّة عندما عمدوا الى قتل عمه حمزة بطريقة وحشيّة، ولكنّه مع ذلك عفا عن قريش عندما فتح مكّة متناسياً تلك الأعمال الوحشيّة التي مارسوها معه ومع أقاربه وأصحابه قائلاً: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".في حين إنّه كان بامكانه أن ينتقم منهم، ويبيدهم عن آخرهم، ويقتلهم شرّ قتلة، ومع ذلك عفا عنهم عند المقدرة.
وعلى هذا؛ إنّنا بحاجة اليوم الى مثل هذه الأخلاق الرفيعة السامية، لأنّنا نعيش ظروفاً قاسية، والحياة التي نحياها حياة صعبة، وإذا ما لم نتمتّع بصفة العفو عن بعضنا البعض، فانّ قسوة الحياة سوف تؤثّر فينا سلبيّاً، فاذا بالواحد منّا يتحوّل إلى برميل بارود بسبب المصائب والمشاكل التي يواجهها مثل هجرته من بلده، ومعاناته الغربة، والمشاكل التي يصادفها من قبل المجتمع المحيط به، وإذا ما أصبحت هذه الحالة جماعيّة فانّ خطر التمزّق والتشتّت سوف يهدّد المجتمع برمّته.
وبناءً على ذلك فانّنا اليوم أحوج ما نكون الى تربية الصفات الإيجابية في أنفسنا؛ هذه الصفات التي تقف في مقدّمتها صفة العفو، والتسامح، وكظم الغيظ.. فالعاملون في سبيل الله عز وجل بمسيس الحاجة إلى هذه الأخلاق؛ فهم يعيشون حالة الصراع مع أعدائهم، ولذلك فانّهم يحتاجون إلى أن تكون صدروهم رحبة واسعة لكي ينطلقوا في مجالات العمل الرسالي.
العفو من عزم الأمور
بالنسبة إلى بعضنا البعض، وعلى صعيد علاقاتنا الداخليّة، فقد قال ربنا سبحانه: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ( (الشورى/43).
ولعلّ هناك تفسيرات عديدة لعبـارة:
(إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ)
ولكنّ التفسير الأقرب أن نقول إن هذه الأمور نحن بحاجة فيها الى عزم، فـاذا ما أراد الانسان أن يحمل حملاً ثقيـلاً فانّه يحتاج إلى إرادة وعزيمـة، وإلـى استعداد نفسيّ لكي يكون بإمكانه حمل هذا العبء.
وهكذا الحال بالنسبة إلى العفو، فانّه يعتبر من ضمن الأخلاق التي من الصعب على الإنسان أن يتحلّى بها، ويحوّلها الى ملكة وسجيّة له في نفسه؛ بل هي بحاجة إلى استعداد وتمرين وتدريب طويل، ولذلك أشار الله سبحانه وتعالى إلى أنّها من عزم الأمور؛ أي من الأمور التي لا يمكن أن تصدر من الإنسان إلاّ إذا كان ذا إراداة قويّة، وعزم لا يلين على كظم عواطفه، ومشاعر غضبه إزاء الأشخاص الذين يسيؤون إليه.
أسأل المولى العزيز القدير الحكيم العدل أن يجزي شيخنا النّاصر المناصر لكلمة الهُدى (د عايض ) ويجزي ناقِل النُّصح المفيد كل خيرٍ وبركة وأن يهدينا بدينه الى الهدى والصّلاح والى العفو والتّسامح ,,
أكرّر أسفي على الإطالة.......
فلِعِظم شأن العفو على الأنفس أطلتُ بِردّي ....
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.