كتب فضيلة الشيخ الأديب العلامة علي الطنطاوي ، رحمه الله وجعل الجنة مأواه ، هذا المقال قبل أكثر من نصف قرن من الزمان ، عندما كان في بلاد الشام آنذاك ، وهو يتحدث عن ممارسات صدَرَتْ من أحد النماذج القيادية في ذلك الحين تبعاً لظروف حدثت في تلك الأيام ، وقد أحببت بعد تصرف يسير أن أنشرها هنا لطرافتها ولنعلم أنه من الطبيعي تكرار مثلها في وقتنا هذا ، وفي أي مكان !
يتحدث الطنطاوي عن البرنامج اليومي لذلك الموظف الخامل ( رئيس الدائرة ) الذي أصبح بقدرة قادر رجلاً قيادياً رغم مايفتقده من أدنى مسوغات الجدارة والاستحقاق ، فيقول :
كان مرتبه الشهري أمامه ، قد ألقاه على المكتب إلقاء : ثلاث قطع من ذوات المائة ، وقطعة بخمس ليرات ممزّقة بالية قد علاها الدهن والوسخ ، وكسور من الفرنكات ( القروش ) ، وكان في يده ورقة يدوّن عليها حسابه ، حتى إذا فرغ نظر فيها ، وفرز الورقات الثلاث ، ليوزعها على الخباز واللحام والخضري والسمان ، ووضع الباقي في جيبه ، ولم يحس لقبض الراتب مسرة ، ولم يشعر للإنفاق بألم ، بل كان يعمل ذلك بلا فكرٍ كدأْبه كل شهر : يقبض الراتب فيوفي الديون كلها ، ثم يرجع فيستدين على الراتب الجديد ، وإن نقص منه شيء استقرضه أملاً بسلفة أو منحة ، أو رزقٍ غيبيٍّ غير محتَسَب ، وكانت هذه الحكاية تتكرر كل شهر ، كما تتكرر أيامه كلها متشابهة مملة ، يصبح فلا ينتظر جديداً في النهار ، ويمسي فلا ينتظر جديداً في الصباح ، فهو يصحو كل يوم ، فيقوم من الفراش متكاسلاً ، لا يسوقه شيء إلى الإسراع ، لأنه موظف ، والدوام وإن كان له موعد معين ؛ لكن هذا الموعد لا يحدَّد إلا في البلاغات والأوامر ، ولا يفكر أحد في تنفيذه ، ولا يلقى المراجع قبل الساعة التاسعة موظفاً واحداً من كل مائة موظف على كرسي عمله ، ثم إنه رئيس دائرة في ( قضاء ) بعيد ، لا يسأله أحد إن غاب أو حضر ، ولا يجيئه المفتش كل سنة مرة ، وإن هو جاء فما أكثر الأعذار ! ، وأيسرها عليه ادّعاء المرض ، وإبراز تقرير من صديقه الطبيب الرسمي أنه مصاب بالتهاب القصبات الحاد ، ويحتاج للراحة والتداوي ثلاثة أيام !
يبدأ برنامجه الصباحي بالاستيقاظ من نومه ، فيتردد نصف ساعة بين مبارحة الفراش والبقاء فيه ، ثم يؤثر النهوض ، ثم ينزل من سريره ويتجه للمغسلة ، ولم يكن يصلي ولا يعرف الصلاة ، ثم يأكل مايأكله كل يوم بلا شهية ولا رغبة ، ثم يلبس ويمضي إلى عمله متباطئاً ، فيرمي نفسه على الكرسي ، فإن فاجأه صاحب معاملة ينتظر من الصباح ، نهره وقال : ماتنتظر ! شو هالقلة الذوق !
ويقرع الجرس ، ويطلب القهوة والجريدة ، ويدعو الكاتب ليعرض عليه الأوراق ليوقعها ، والكاتب هو الذي يشتغل كل شيء ، وإن كان خطأ كان الكاتب هو المسؤول عنه ، أما عمل صاحبنا فهو أن يذيل الأوراق بإمضائه الكريم ، ويشرب القهوة والدخان ، ويستقبل أصدقاءه حتى يمل ، فيقوم ويوصي الكاتب بأن يبقى إلى آخر الدوام ، ويذهب إلى داره فيأكل وينام ، ويخرج العشية ليمشي في الشارع ، الذي يمشي فيه كل يوم مائة مرة ذاهباً وآيباً ، ويرى الوجوه التي يراها كل يوم ؛ المختار والحاكم ومدير المال والطبيب ، فيلعب معهم الطاولة ، ويسمع أحاديثهم التي تعاد كل يوم ، حتى يكون موعد النوم ، فينام لينهض فيعيد الرواية !
هذه صورة من حياة أكثر الموظفين ، حياة ليس فيها ( حياة ! ) ، ولا حماسة ولا اهتمام بشيء ، ولا سعي إلى غاية ، إلاّ السعي إلى قبض الراتب آخر الشهر ، والسعي إلى التقاعد ثم إلى القبر !
وهذه هي الحياة التي لا يُقبل الشباب إلا عليها ، ولا يرغبون إلا فيها ، ولا يتعلمون إلا التعليم الذي يوصلهم إليها .
ونريد بعد ذلك أن نكون أمة يقظة ومغامرة ومكافحة !
انتهى كلامه رحمه الله .
ومني لجميع الزملاء والأعضاء أجمل تحية وأزكى سلام .
المواصل