فضيلة الشيخ علي بن مصطفى الطنطاوي ، العالم الداعية الأديب الخطيب القاضي ، ولد سنة 1327 هـ( 1909 م)في دمشق ، عمل بالقضاء بالشام ودرّس في دمشق وبيروت وبغداد والرياض ومكة،شارك بالمؤتمرات الإسلامية وعمل بالصحافة ، له فوق خمسين كتاباً في شتى العلوم ، توفي رحمه الله بمكة عام 1420 هـ ( 1999م ) ، عن 93 عاماً 0
قرأت له هذه الواقعة عن المتسولين فأعجبتني ، ويبدو أنها كتبت منذ مايربو على نصف قرن ، قال :
مررت اليوم على " شحاذة " قاعدة في ( القنوات ) مستندة إلى الحائط ، وأمامها ثلاثة أولاد نائمون على بساط قذر ، لا يبدو منهم إلا شعر رؤوسهم ، وهي تسأل كل غادٍ ورائح تشير إلى الأولاد ، وتحلف أنهم مرضى وأنهم جياع !!!
فلم أكد ابتعد عنها ؛ وأدخل تحت القناطر ؛ حتى سمعت من ناحيتها صوتاً ، فنظرت إليها من حيث لا تراني ، فرأيتها تلتفت حولها ، حتى إذا رأت الطريق خالياً ؛ قامت ، ووثب الأولاد ، فأعطتهم شيئاً ، فأخذوه وأقبلوا على القناطر عَدْواً،وذهبِتْ هي من جهة الشارع ، فعجبْتُ منهم ، وتأمّلتهم فإذا هم أقوياء وأصحّاء ، حمر الوجوه ، نواضر الأجسام ، ما خالطتهم علة ولا داخِلِهم مرض ، فدعوت أكبرهم ،فأقبل فزعاً ، ووقف أمامي مظهراً التذلل ، متكلفاً الضعف ، ومدّ يده يسأل : حسنة من مال الله لهذا الفقير الجوعان !!
فذهبت أسأله عن المرأة وعلاقته بها ، وهو يتجاهل الجواب ويعكف على " السؤال " ، فقلت له : بس بلا قلة أدب ، جاوب على سؤالي تأخذ نصف ليرة ، وإذا سكتّ أو كذبت ضربتك كفين وأخذتك للمخفر 0
فطمع بالمال ، وفزع من الضرب والشرطة وحدّثني 0000000000
فعلمت منه أن المرأة ليست أمه ولا الولدان أخويه ، وإنما تستأجره من أبيه الظالم القاسي ، كما تستأجرهما من أبويهما بليرة في اليوم ، وتضطرهما اضطراراً إلى أن يبقوا " نائمين " أمامها ست ساعات على أرض الشارع ، لا تدَعهم يتحركون فيها ، ولا ينهضون ولا يفتحون أعينهم فينظرون ، وَوَصَف لي مايلقى من هذه الضجعة !! ، فإذا هو عذاب أخف منه ماتقرأ من أخبار التعذيب في القرون الوسطى 0
وأعطيته ما وعدته ، وسرت افكر في هذا العدوان على الطفولة البريئة ، التي لا تستطيع أن تحمي نفسها ، و لا تجد من يحميها ، فما وصلت إلى أول شارع جمال باشا ؛ حتى وجدت ذلك الأسود ، الذي يرابط هناك أبداً ، فكلما مرّ أحد قفز إلى وجهه فجأة ، ورفع كتفاً وخفض كتفاً ، وأحنى رأسه حتى يستقر تحت أنف المارّ يسأله0
وفي رأس سوق الحميدية وجدت ذلك السائل الجديد ؛ الذي لا أدري من اين هبط دمشق ، واقفاً كعادته أمام العمود بعمامته البيضاء ، وجبّته ، عاقداً يديه على صدره ، مبتسماً ابتسامة بلهاء ، لا ينطق بحرف ، فما دخلت السوق حتى أقبل عليّ هذا الشحاذ الغليظ صاحب العطر ، وهو رجل قوي صحيح ، يستطيع أن يجر محراثاً ، ولكنه لم يؤثر من الأعمال إلا أن يفاجئك ، ثم يمسح يدك أو ثوبك بعطره الشنيع ؛ على رغم أنفك ؛ ليأخذ منك شيئاً 0
ولحقني بعده هذا الشحاذ العجيب ، الذي يتعلق بالمارّ ويصيح به : ( مشان ألله ؛ مشان النبي ) !! ؛ يكررها ألف مرة ، وهو يمشي معه ، لا ينصرف بالسب ؛ ولا بالضرب ولا بالرفس ، ولا بالنطح ! ، ولا يستطيع شيء في الدنيا أن يصرفه 0
وفي أول ( المسكية ) وجدت مريضاً مفلوجاً مسكيناً ، يرتجف ويسيل لعابه ، وهو يتمسك بكل مجتاز 0
وعلى باب ( الأموي ) عشرون شحاذاً ، لكل واحد منهم طريقة مبتكرة 0
وفي كل حي شحاذون آخرون ، لهم طرائق غير هذه ؛ حتى صارت الشحاذة صناعة فنية ؛ لها أصولها وقواعدها ، وتجارة واسعة ؛ لها أسواقها وأرباحها ، ونحن لا نبالي أن تشتمل مدينتنا على هذا الخزي ، بل إن منّا من لا يزال يعطي هؤلاء المحترفين ويحسب أنه يصنع خيراً ، لا يا أيها الناس ؛ إن الصدقة للفقراء المستورين ، الذين يستحون أن يسألوا الناس ، أما هؤلاء فلا تعطوهم لئلاّ تشجعوهم على هذا الخزي الذي لا يرضاه الشرع ، و لايجيزه القانون ، و لا يقره العرف ، و لاتسيغه كرامة الإنسان 0