..
..
النفط في أسبوع - مُضارب في نيويورك «طامح للشهرة» يرفع برميل النفط فوق 100 دولار
الحياة
تراوح نطاق الاسعار خلال الايام الاخيرة من العام الماضي ما بين 90 و 95 دولاراً. وفي اول يوم للتعاملات في الاسواق العالمية، أي 2/1/2008، ارتفع سعر النفط في سوق نيويورك (نايمكس) فوق الحاجز النفسي 100 دولار للمرة الاولى، من دون سبب معين او احداث طارئة. ونشر موقع الانترنت الخاص بالاذاعة البريطانية باللغة الانكليزية الخميس الماضي خبراً يفيد أن وراء هذا الارتفاع المفاجئ تاجر نفط مغموراً في نيويورك اراد ان «يدخل اسمه في سجل المشاهير» و «يستطيع ان يقول لأحفاده انه دفع بسعر النفط فوق 100 دولار». فاشترى 1000 برميل من النفط الخام، وهي اقل كمية يمكن المشاركة فيها في مزاد نايمكس، ودفع بالسعر لبعض الوقت فوق 100 دولار. لكن هذه الصفقة كانت الوحيدة في السوق في ذلك اليوم، تعدى سعر البرميل فيها الـ 100 دولار، من ثم تراجع قليلاً الى نحو 99.40 دولار. وخسر هذا التاجر نحو600 دولار نتيجة مغامرته، ليعود السعر فيرتفع لاحقاً فوق 100 دولار مرة اخرى بعد الاعلان في اليوم التالي عن انخفاض مستوى المخزون التجاري النفطي الاميركي للأسبوع السابع على التوالي.
طبعاً، تدل هذه التجربة البسيطة على الدور الكبير للمضاربين في الاسواق المفتوحة في نيويورك ولندن، خصوصاً عندما يكون حجم التعاملات محدوداً، كما هي الحال في هذه التجربة، واذا قارنا حجم «الصفقة» أي 1000 برميل، بحجم النفط المتداول يومياً، وهو نحو 85 مليون برميل.
وكما هي العادة في هذه الاحوال، نُسب هذا الارتفاع في الاسعار الى عوامل جيوسياسية مثل هجوم قوات الثوار في نيجيريا على موظفي الشركات النفطية العاملة في بورت هاركورت، وازدياد اعمال الارهاب والتخريب لحركة القاعدة في الجزائر، واحتمال توسعها لتشمل القطاع النفطي. والخوف هنا، ان هاتين الدولتين الافريقيتين اخذتا في الآونة الاخيرة تزودان السوق الاميركية كميات اكبر من النفط الخام، بعد الانخفاض في الامدادات من المكسيك وفنزويلا. وتخوف محللون من آثار الاضطرابات السياسية في باكستان على الدول المجاورة بعد اغتيال زعيمة المعارضة بينظير بوتو وتداعيات الغزو التركي لشمال العراق – براً وجواً، بخاصة بعد استقرار صادرات نفط كركوك أخيراً وازديادها.
طبعاً، هناك عوامل اقتصادية متعددة تلعب دورها ايضاً في مسلسل ارتفاع الاسعار. فهناك التوقعات بخفض معدل الفائدة الاميركية، ومدى تأثير ذلك على قيمة الدولار، المنخفض في كل الاحوال، ودور المضاربات من قبل المؤسسات المالية ومحاولتها الاستفادة من التأرجحات والتقلبات في الاسواق لجني اكبر كمية ممكنة من الارباح، والطقس البارد في نصف الكرة الشمالي، خصوصاً وسط اوروبا والولايات المتحدة، ومدى تأثير العواصف على رسو الناقلات في موانئ الولايات المتحدة، ما سبب الكثير من التأخير، ومن ثم انخفاض مستوى المخزون التجاري النفطي الاميركي للاسبوع السابع، وأثره على سيكولوجيا السوق.
في نهاية المطاف، وعلى رغم جميع هذه الاسباب وتنوعها، وعامل المضاربة الذي يلعب دوراً كبيراً في تذبذب اسعار النفط كما يدل الخبر المنشور على الموقع الالكتروني للـ «بي بي سي»، يبقى هناك سبب مهم وراء الارتفاع في الاسعار هو النمو الاقتصادي المستدام في الدول النامية الكبرى مثل الصين والهند، ومن ثم النمو غير المسبوق في الطلب على النفط الخام فيها خلال السنوات الماضية، ناهيك عن الولايات المتحدة ذاتها.
وفي هذا الصدد، نشــرت وكالة الطاقة الدولية، وهي تمثل مصالح الدول الصناعية المستهلكة للنفط، دراسة موسعة وقيمة في اواخر السنة الماضية عن اسواق الطاقة في الصين والهند، تذكر فيها «ان الصين والهند هما العملاقان الجديدان في الاقتصاد العالمي. وسيؤدي نموهما الذي يعتبر سابقة الى تحسين مستوى المعيشة لبلايين السكان. ومن غير المعقول الطلب منهما ان يوقفا عمداً هذا النمو من اجل حل مشاكل عالمية».
وبالنسبة للمستقبل يضيف التقرير: «ستزداد اهمية الصين والهند على المستوى العالمي للطاقة خلال العقود المقبلة، وسينعكس هذا من خلال النمو الاقتصادي المتسارع، والتصنيع، والنمو الحضري وتوسع سكان المدن، وتحسن ملحوظ في مستوى المعيشة». ويتوقع ان تصل معدلات نمو الطاقة في الدولتين العملاقتين الى «نحو 3,2 في المئة سنوياً في الصين و3،6 في المئة في الهند، وهي كما هو معروف معدلات نمو طاقوية اعلى بكثير مما يتحقق سنوياً في بقية دول العالم والتي لا تتجاوز في الاحوال الاعتيادية زيادة سنوية تفوق 1,50 في المئة». وفي حال تحقيق هذه المعدلات العالية في هذين البلدين في المستقبل، سيعني ذلك انهما سيشكلان نحو 45 في المئة من زيادة استهلاك العالم للطاقة بحلول عام 2030.
اسئلة كثيرة تطرح نفسها عند التمعن في هذه الامور منها: هل هناك نفط كاف لتلبية هذا الطلب المتزايد على الطاقة، بخاصة مع انتشار نظرية «ذروة النفط» في الدول الغربية التي تشكك في ارقام احتياطات دول «اوبك»؟ ان مشكلة هذه النظرية القديمة/الجديدة التي تجد من يصغي اليها كلما ارتفعت اسعار النفط، والتي تنشر الهلع والخوف عند بعض المحللين، تكمن مشكلة هذه النظرية في عدم قدرتها على الدفاع عن وجهة نظرها بشكل واقعي، فاصحابها يشككون ويراوغون من دون اي دليل مادي مقنع. كما ان التشبث بهذه النظرية يتجاهل واقع العالم كما نعيشه اليوم، ولكن الاهم هو كما سنعيشه غداً.
فازدياد معـــدل استهـــلاك الطاقة عالمياً لا يعني البتة الاعتماد فقط علـــى احتياطـــات حقول النفط كما نعرفها اليوم، فهناك اولاً وقبل كل شيء، التقنية التي تساعد في استخلاص كميات اكبر واكبر من حقول اليوم ذاتها. فبدلاً من استخلاص 15 في المئة فقط من احتياط حقل نفطي مثلاً، تسمح التقنية باستخلاص نحو 50 في المئة من الاحتياط. وهذا النوع من التقدم العلمي وغيره، مثل تصنيع المنتوجات البترولية الخالية من ثاني اوكسيد الكربون مباشرة من الغاز الطبيعي، كما سيحصل في قطر خلال اشهر بالتعاون مع شركة «ساسول» الجنوب افريقية. فهذان الاكتشافان العلميان ونجاحهما اقتصادياً، سيطيلان عصر النفط ويساعدان على تعويض تحديين مهمين يواجهان الصناعة النفطية: اكتشاف عدد محدود في السنوات الاخيرة لحقول عملاقة تعوض المفقود في الانتاج الحالي، ومواجهة مشكلة التلوث التي تقلق الرأي العام العالمي.
لكن الى جانب هذين الابتكارين العلميين، هناك مسألة البدائل. فعند التكلم عن التوسع في استعمال الطاقة، فهذا لا ينحصر فقط في استخدام النفط. وكما هو معروف، اصبحت المنتوجات البترولية تستعمل في قطاع المواصلات في شكل واسع وكبير، بينما تستعمل بدائل الطاقة الاخرى (الشمسية والذرية والرياح) في انتاج الكهرباء وهذه جميعها طاقات متجددة اي غير قابلة للنضوب، وان كان بعضها يلاقي مشاكل سياسية او بيئية من اجل التوسع في استعماله، كما هي الحال مع الطاقة الذرية، مثلاً.
هذه الأمثلة إن دلت على أمر، فهو عدم توافر اجوبة بسيطة وجاهزة لشرح التذبذبات اليومية لسوق النفط هذه الايام, بسبب العوامل المتعددة والمعقدة للصناعة ذاتها، اكان ذلك بالنسبة للطلب او للعرض.