د. لطفي ل " الرياض ": الدول النامية في حاجة إلى جهاز إداري قادر على التعامل بلغة العصر
لا مجال للحديث عن أي إصلاح اقتصادي بدون إصلاح إداري شامل
شرم الشيخ - أجرى الحوار - محمد الصفيان
كثيرا ما نسمع عن دول متخلفة اقتصاديا لعدة أسباب اقتصادية أو سياسية أو غيرها من أسباب جعلت هذه الدول في مصاف الدول المتخلفة.. ولكن هل هذا المفهوم هو المفهوم الصحيح السائد علميا في نظريات الإدارة الحديثة حيث يقول أستاذ الإدارة في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية بيتردروكر عن دور الإدارة في التنمية الاقتصادية انه يمكن القول دون إمعان في التبسيط انه ليس هناك دول متخلفة اقتصاديا .. وإنما هناك دول متخلفة إداريا فقط.
فالعامل الإداري أهم من الأسس الرئيسية التي تعتمد عليها اقتصاديات الكثير من الدول.
كما أن عدم وجود جهاز لتحديد المعايير في كثير من الدول يجعلنا لا نعلم الخطط الإستراتيجية لقطاعاتنا العامة والخاصة.
"الرياض" التقت العالم الاقتصادي الأستاذ الدكتور علي لطفي رئيس الوزراء المصري الأسبق والذي تقلد عدة مناصب حكومية وخاصة ويستعرض تجاربه العملية والعلمية حول مفهوم الإدارة الحديثة في تنمية اقتصاد الدول. حيث عمل رئيسا لمجلس الوزراء ورئيسا لمجلس الشورى ورئيس المجلس الأعلى للصحافة ورئيس لجنة الأحزاب السياسية ووزير المالية وعضو مجلس إدارة بنك منتدب بأحد البنوك وعضو مجلس إدارة بإحدى الشركات الاستثمارية وغيرها من مناصب أخرى.. هنا يطلعنا الدكتور لطفي على تجربته من خلال التعاطي مع مفاهيم الادارة مرتكزاً على خبرة تمتد إلى أكثر من اربعين عاماً .. الى التفاصيل :
على الرغم من أن الإدارة علم له نظرياته وأسسه وقواعده التي استقرت منذ عشرات السنين، والتي يصعب إن لم يكن يستحيل على أي قائد إداري أن ينجح في عمله بدون الإلمام بها، إلا أن الخبرة في العمل الإداري تظل على جانب كبير من الأهمية. وإذا كانت الخبرة تكتسب من ممارسة العمل الإداري فإنها يمكن أن تكتسب أيضاً من التعرف على التجارب الرائدة.
لقد كان لي شرف شغل العديد من المناصب: "رئيس مجلس الوزراء، رئيس مجلس الشورى، ورئيس المجلس الأعلى للصحافة، رئيس لجنة الأحزاب السياسية، وزير المالية وغيرها من مناصب.
وقد خرجت من هذه التجربة ة بأن الإدارة لها ستة خصائص أساسية يمكن تلخيصها فيما يلي:
أهداف ينبغي الوصول إليها علماً بأن السعي لتحقيق الأهداف هو المبرر الأساسي لوجود الإدارة.
ظروف داخلية (أي تتعلق بالمنظمة التي تشرف عليها الإدارة) ينبغي على الإدارة أن تعمل على تطويعها وتوجيهها بما يسمح بتحقيق الأهداف.
ظروف خارجية (أي تتعلق بالمجتمع أو المتغيرات العالمية) ينبغي التعرف عليها واستيعابها ورصد اثارها وانعكاساتها والتعامل معها بكفاءة أي تحجيم الآثار السلبية وتجسيم الآثار الإيجابية.
معلومات أساسية وهى أساس اتخاذ القرار السليم وبشرط أن تكون هذه المعلومات دقيقة وتفصيلية وحديثة.
موارد وإمكانيات متاحة (مادية وبشرية) ومدى استغلالها والاستفادة منها ومحاولة توظيفها واستثمارها بما يسمح بالحصول على أقصى إنتاجية منها.
تكنولوجيا سريعة التغيير والتطور في مختلف المجالات بما في ذلك المجال الإداري (وبصفة خاصة تكنولوجيا الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات) وضرورة ملاحقتها وانتقاء المناسب منها حتى يمكن تحقيق الأهداف بأقل تكلفة وأقل جهد وفي أسرع وقت وبأعلى مستوى من الأداء.
تلك هي الخصائص الستة الأساسية للإدارة وكيفية التعامل معها بحيث تصبح الإدارة مؤثرة وفعالة.
وحول بعض التجارب التي قام بها خلال مناصب عمله سواء في القطاع العام أو الخاص قال:
التجربة الأولى: المتابعة:
نظراً لأن القائد الإداري غالباً ما يكون مثقلاً بالأعباء، فإن ما يتخذه من قرارات قد لا يتم تنفيذها حيث أن المستويات الأدنى من الإدارة تعلم ضخامة الأعباء التي تقع على كاهل القائد الإداري متخذ القرار، ومن ثم فإنه لن يتذكر ما اتخذه من قرارات. وحتى يمكن التغلب على هذه المشكلة قمت خلال فترة عملي كرئيس لمجلس الوزراء بإنشاء وحدة للمتابعة وعينت فيها مجموعة من الأفراد الأكفاء، وكانت المهمة الوحيدة لهذه الإدارة متابعة تنفيذ قرارات مجلس الوزراء واللجان الفرعية المنبثقة عنه وكذلك قرارات رئيس مجلس الوزراء، وقد دلت التجربة على نجاح هذه الإدارة نجاحاً باهراً بحيث لم يتأخر تنفيذ أي من القرارات المشار إليها.
ومن أهم الأمثلة التي أذكرها في هذا الصدد ما يتعلق بصناعة الأسمنت في مصر، ففي خلال الأسبوع الأول الذي توليت فيه العمل كرئيس لمجلس الوزراء عقدت اجتماعاً حضره وزير الإسكان وجميع رؤساء شركات الأسمنت في مصر وناقشنا أسباب تأخر افتتاح المصانع وخطوط الإنتاج الجديدة ووضعنا الحلول واتفقنا على مواعيد محددة لافتتاح هذه المصانع الجديدة وخطوط الإنتاج الجديدة، وانتقل القرار إلى إدارة المتابعة التي راحت تلاحق رؤساء الشركات وتتابع معهم تقدم العمل طبقاً لما اتفق عليه، فكانت النتيجة تحقيق الأهداف للبرنامج الزمني المحدد وانطلقت صناعة الأسمنت في مصر وزاد الإنتاج من حوالي 3ملايين طن في السنة عام 85إلى حوالي 16مليون طن في السنة عام 92وبذلك تحقق الاكتفاء الذاتي في الأسمنت بل وبدأ يتحقق فائض للتصدير.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن صناعة الأسمنت في مصر كانت قد خصصت لها استثمارات ضخمة خلال الفترة من عام 78حتى عام 85ولكن غياب المتابعة أدى إلى التراخي في التنفيذ.
التجربة الثانية: تحطيم الروتين:
من المعروف أن الإدارة في الدول النامية تعاني من مجموعة من الأمراض من بينها بل أهمها الروتين والبيروقراطية وطول الإجراءات، وأذكر هنا تجربة التراخيص الصناعية التي توضح وتؤكد أن تحطيم الروتين في الدول النامية ليس بالأمر المستحيل، كانت هيئة التصنيع الملحقة بوزارة الصناعة تحتاج لفترة تتراوح بين ثلاثة شهور وستة شهور لمنح ترخيص لأحد المشروعات الصناعية وهذه ولا شك فترة طويلة تعوق
الاستثمار الصناعي وكانت هيئة التصنيع تحتاج إلى هذه الفترة ة حتى يتمكن المسئولون فيها من الاطلاع على دراسة الجدوى التي يقدمها المستثمر (وكان تقديمها شرطاً أساسياً) وحصول المستثمر على موافقة هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة على تخصيص الأرض اللازمة لإقامة المشروع وحصوله كذلك على موافقة هيئة الكهرباء على تخصيص الطاقة اللازمة للمشروع، وفى يناير 1986صدر قرار رئيس مجلس الوزراء الذي يقضي بإنشاء مكتب للتراخيص بهيئة التصنيع وتنظيمه داخلياً طبقاً للنظام المتبع في البنوك (شبابيك يتعامل من خلالها المستثمر) يتقدم المستثمر بورقة واحدة تتضمن بياناته الشخصية والبيانات الأساسية للمشروع (شباك رقم 1) ثم ينتقل إلى (شباك رقم 2) حيث يجد مندوب هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة ليخصص له الأرض اللازمة للمشروع ثم ينتقل إلى (شباك رقم 3) ليخصص له الطاقة اللازمة للمشروع.
ونص قرار رئيس مجلس الوزراء على صدور الترخيص الصناعي شاملاً الأرض والطاقة خلال أسبوع واحد على الأكثر من تاريخ تقديم الطلب، ويلاحظ أن هذا النظام الجديد قد أعفى المستثمر من تقديم دراسة جدوى للمشروع حيث يحتاجها المستثمر نفسه ليطمئن مقدماً على جدوى المشروع وقد يحتاجها البنك إذا كان المشروع في حاجة إلى قروض، أما هيئة التصنيع فلا علاقة لها بدراسة الجدوى من قريب أو بعيد، وقد نجحت هذه التجربة في تحطيم الروتين والقضاء على البيروقراطية وتبسيط الإجراءات الأمر الذي أدى إلى تضاعف عدد التراخيص الصناعية عام 86عما كانت عليه عام
85.
التجربة الثالثة: المشاركة في الإدارة:
لا شك أن القائد الإداري في أي موقع مهما أوتي من علم وخبرة فإنه لن يستطيع وحده أن يكون مبتكراً ومجدداً، وبعبارة أخرى فإن التجديد والتطوير يحتاج إلى مشاركة من الآخرين سواء كانوا من داخل المنظمة التي تتعامل معها الإدارة أو من خارجها، وخلال فترة عملي كرئيس للوزراء طبقت فكرة المشاركة على مستوى جميع المواطنين، وكان الهدف الأساسي من ذلك إيجاد شعور لدى المواطنين بأنهم يشاركون بالفعل في الحكم ومن ثم يتوالد لديهم الشعور بالولاء والانتماء للوطن، كما أنني أعتقد أن من يعمل في أي موقع بما في ذلك من يعمل في أول السلم الإداري هو الأكثر قدرة على تطوير العمل في هذا الموقع.
ومن هذا المنطلق فقد أنشأت بنكاً في فبراير 86أطلقت عليه بنك الأفكار وأعلنت عنه في مختلف وسائل الإعلام وكانت استجابة المواطنين مذهلة حيث كان هذا البنك (الملحق بالأمانة العامة لمجلس الوزراء) يتلقى يومياً مئات الخطابات ومئات المكالمات التليفونية والفاكسات من المواطنين المخلصين الذين يقدمون الأفكار والاقتراحات البناءة وكان يتم بالفعل فحص الآراء والاقتراحات وتطبيق ما يثبت جدواه مع تقديم خطاب شكر للمواطن صاحب الرأي أو الاقتراح.
التجربة الرابعة: حسن اختيار القيادات:
على الرغم من أن هذا المبدأ معروف في الإدارة إلا أنه للأسف الشديد غير مطبق في كثير من الحالات، وكنت وما زلت أعتقد دائماً بأن نجاح أي عمل إداري يتوقف أساساً على نجاح قائد العمل، وقد أتيحت لي الفرصة لتطبيق هذا المبدأ، وأذكر في هذا الصدد أن مذكرة قد عرضت عليّ عام 86عن إحدى شركات القطاع العام وتبين من هذه المذكرة أن سوء الإدارة هو السبب الوحيد وراء فشل الشركة وتحقيقها خسائر ضخمة ومتلاحقة عاماً بعد آخر.
وقد اتخذت قراراً فورياً بتغيير شخص واحد في هذه الشركة هو رئيس مجلس الإدارة حيث تولى إدارتها رجل يتميز بالعلم الغزير والتجربة العملية والأمانة والنزاهة والفكر المتجدد، وكانت النتيجة أن أصبحت هذه الشركة شركة ناجحة وبدأت في العام التالي مباشرة تحقق أرباحاً ومازلت أتابع أعمالها حتى اليوم التي تؤكد استهلاك الخسائر المتراكمة وتحقيق أرباح صافية ضخمة ومازال رئيس مجلس الإدارة الجديد في موقعه بل وتم تعيينه مفوضاً على شركة أخرى.
التجربة الخامسة: توفير المعلومات:
لا شك إن اتخاذ القرار السليم لا يمكن أن يتم إلا إذا توافرت مجموعة من المعلومات لمتخذ القرار، ومن الطبيعي أن تكون هذه المعلومات عن المنظمة ذاتها وكذلك معلومات عن المجتمع الذي تعمل فيه المنظمة إلى جانب معلومات عن المتغيرات العالمية التي يمكن أن تؤثر على إدارة هذه المنظمة، وهناك ثلاثة شروط يجب أن تتوفر في هذه المعلومات وهي:
الشرط الأول: أن تكون المعلومات دقيقة لأن المعلومات الخاطئة تؤدي إلى قرار خاطئ.
الشرط الثاني: أن تكون المعلومات تفصيلية لأن المعلومات القاصرة لا تساعد على اتخاذ القرار السليم.
الشرط الثالث: أن تكون المعلومات حديثة لأننا نعيش في عصر سريع التغيير والإيقاع ومن ثم فإن عدم تحديث المعلومات والبيانات يؤدي إلى اتخاذ قرارات لا تتمشى مع الواقع.
التجربة السادسة: لا مركزية الإدارة:
تعاني الدول النامية ومنها مصر من مركزية الإدارة بمعنى تركيز سلطة اتخاذ القرار في يد القائد الإداري في المنظمة، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى تأخير اتخاذ القرار حتى يصل من المستويات الأدنى إلى المستويات الأعلى ويؤدي كذلك إلى أن يفقد العاملون في المستويات الأدنى الثقة في أنفسهم.
لذلك أصبحت اللامركزية عنصرا أساسياً من عناصر الإدارة الحديثة. وخلال المناصب المختلفة التي تقلدتها طبقت هذا المبدأ حيث كنت منذ اليوم الأول لتولي أي منصب أستدعي المستشار القانوني وأطلب منه إعداد قرارات تفويض السلطات للمستويات الأدنى كلما كان ذلك ممكناً طبقاً لنص القانون، وقد أثبتت هذه التجربة نجاحاً كبيراً حيث كانت القرارات تصدر في زمن قياسي، وزادت ثقة العاملين في المستوى الأدنى في أنفسهم، أما الميزة الكبرى لهذا النظام فهي زيادة الوقت المتاح لمستويات الإدارة العليا للتفكير في السياسات والمسائل الهامة بدلاً من ضياع الوقت في توقيعات عديدة يمكن أن تتم في المستويات الأدنى.
التجربة السابعة: سياسة الباب المفتوح:
هناك خطأ شائع عن سياسة الباب المفتوح حيث يعتبر الكثيرون أن هذه السياسة تعني ترك باب القائد الإداري مفتوحاً طوال الوقت لاستقبال العاملين والمتعاملين والاستماع إلى آرائهم وشكواهم. والواقع أن هذا المفهوم خاطئ لأن تطبيقه غير ممكن عملياً حيث يؤدي إلى ارتباك العمل، أما سياسة الباب المفتوح التي نقصدها فهي وجود صلة أو اتصال بطرق منظمة بين القائد الإداري من جهة والعاملين والمتعاملين مع المنظمة من جهة أخرى.
وخلال فترة عملي في مجلس الوزراء أوجدت صلة بيني وبين المستثمرين الذين كانوا قبل ذلك يضجون بالشكوى من مختلف الجهات الحكومية، ومن القوانين والنظم المطبقة، وقد اخترت موضوع الاستثمار بالذات باعتبار أن مشكلة مصر الأساسية هي مشكلة ضعف الإنتاج ومن الطبيعي أنه لا يمكن زيادة الإنتاج إلا بزيادة الاستثمار، ومن أجل هذا أنشأت مكتباً ملحقاً بالأمانة العامة بمجلس الوزراء تحت اسم "مكتب شكاوى المستثمرين" وعينت به مجموعة من الأفراد على مستوى عال من الكفاءة والخبرة. وكانوا يستقبلون المستثمرين بابتسامة لم يعهدوها من قبل ويستمعون إلى شكواهم وأرائهم ومطالبهم ثم يقومون بعد ذلك باتخاذ القرار المناسب.
التجربة الثامنة: أهمية التدريب:
من الأمور المؤسفة في الدول النامية بصفة عامة عدم الاهتمام بالتدريب، وحتى إذا وجدنا اهتماما في احدى المنظمات بالتدريب فإنه في أغلب الأحيان لا يكون فعالاً بسبب ضعف مستوى المدربين، أو ضعف البرامج التدريبية، أو عدم اقتناع المدربين بالتدريب وأهميته، أو عدم كفاية الاعتمادات المخصصة للتدريب.
ولست في حاجة إلى أن أؤكد أهمية التدريب للمستويات الإدارية المختلفة حتى يكونوا على علم بأحدث الأساليب الإدارية من جهة وحتى يتمكنوا من متابعة التطورات السريعة المتلاحقة سواء في المجتمع الذي تعمل فيه المنظمة أو المتغيرات العالمية. ومن هذا المنطلق - في جميع المناصب التي تقلدتها - كنت أولي التدريب أهمية كبيرة.
التجربة التاسعة: ترشيد النفقات:
لا شك أن القائد الإداري في أي منظمة يحاول دائماً تعظيم نتائج أعمال المنظمة التي يرأسها، ولكن يلاحظ أنه في معظم الحالات يتم الالتجاء إلى الأساليب السهلة لتحقيق هذا الهدف الذي قد يحقق في الأجل القصير ولكنه لا يمكن أن يستمر في الأجل .
فالقائد الإداري في إحدى الشركات قد يلجأ إلى رفع أسعار المنتجات لزيادة الأرباح التي قد تتحقق في الأجل القصير، ولكنها ستختفي حتماً في الأجل بسبب المنافسة، أما القائد الإداري الناجح فهو الذي يلجأ إلى الحل السليم على الرغم من صعوبته ألا وهو ترشيد النفقات.
التجربة العاشرة: أهمية الحوافز:
خلق الله تعالى الإنسان كما خلق الجنة والنار، فإذا سار الإنسان على الصراط المستقيم، فانه ينعم بجنات النعيم، أما إذا حاد عن الصراط المستقيم، فإنه يتقلب في نار الجحيم.. ذلك هو النظام الإلهي للكون الذي وضعه المولى عز وجل بميزان دقيق، وإذا أمعنا النظر والفكر في هذا النظام فسنجد أنه نظام للحوافز الإيجابية والسلبية، فالجنة هى الحافز الإيجابي والنار للسلبي.
وقد علمتني التجارب أن أي نظام وضعي لا يمكن أن ينجح في تحقيق أهدافه ما لم يتضمن نظاماً دقيقاً للحوافز بأنواعها المختلفة، وتنقسم الحوافز إلى ستة أنواع تضمها ثلاث مجموعات: حوافز إيجابية وحوافز سلبية، حوافز جماعية وحوافز فردية، حوافز مادية وحوافز معنوية.
بعد استعراض هذه التجارب العشر في الإدارة فإننا نخلص إلى أن الدول النامية ومنها الدول العربية في حاجة إلى جهاز إداري قادر على التعامل بلغة العصر.
إن الإدارة أصبحت علماً له أصوله التي يتعين الإحاطة بها عن وعي وإدراك، فهي عملية فنية مركبة، ومهنة تحتاج إلى تأهيل خاص، فالإدارة لم تعد موهبة شخصية فقط، وإنما هى قدرات ومهارات يتم تأصيلها بالعلم والدراسة، ويتم صقلها بالتدريب الجاد، وتتم تنميتها بالثقافة الشاملة، كما أن الإدارة ليست مجرد نظم وقوانين، وإنما هى أيضاً عملية ترتبط بمجموعة من المبادىء والسلوكيات والمفاهيم الأخلاقية التي ينبغي تعميقها استناداً إلى القيم والتقاليد والعقائد والاتجاهات والمثل السائدة في المجتمع.
والإصلاح الإداري لا يعني مجرد استبدال أفراد بآخرين، أو إجراءات بغيرها، أو قانون بآخر، وإنما يستدعي الأمر قبل كل ذلك أن يكون هناك فكر إداري حديث وملائم، وكذلك قيادات إدارية تقتنع بهذا الفكر وتتمناه بل وتتحمس له، ومن ثم فإننا اليوم أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى وضع فلسفة ورؤية شاملة واضحة للإصلاح الإداري، تأخذ في اعتبارها الظروف السياسية والاقتصادية السائدة، ومتطلبات الإصلاح الاقتصادي، وتحسين وتطوير النظم الإدارية، إلى جانب إعادة تنظيم أجهزة الحكومة المركزية وترشيدها.
أننا كذلك في حاجة إلى إعادة النظر في القوانين واللوائح المنظمة للعمل في مختلف أجهزة الدولة، وبصفة خاصة القوانين التي وضعت في ظل ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة لأن هذه القوانين تتعارض في كثير من الأحيان مع متطلبات الإصلاح الاقتصادى حيث أن كثيراً منها يعوق حركة الإنتاج والادخار والاستثمار والتجارة.
كما أننا في حاجة إلى إعادة تنظيم الجهاز الإداري للدولة للحد من تضخمه وتخفيف حدة البيروقراطية العقيمة، كما أننا في حاجة إلى تبسيط الإجراءات الإدارية الخاصة بالمعاملات المختلفة وعدم تكبيل الوحدات الإدارية التي تتعامل مع الجمهور بالقوانين والنظم واللوائح المتعددة والمعقدة، هذا علاوة على ضرورة الارتقاء بالأسلوب الذى تقدم به الخدمة الإدارية للمواطن بحيث يشعر بكرامته وآدميته وأهميته، ومن ثم يتولد لديه الشعور بالانتماء، مما يجعله يتجاوب مع متطلبات برنامج الإصلاح الاقتصادى، وفي الإصلاح الإداري أيضاً لابد من الحد من ظاهرة العجز في قيادات الصف الثاني.
تلك الظاهرة التي اتسعت في السنوات الأخيرة وأصبحت تشمل العديد من القطاعات الإنتاجية والخدمية، وتزايدت حدتها بشكل كبير. وإذا كان مستوى الأداء في أي وحدة انتاجية أو خدمية يتوقف أساساً على من يشغلون المناصب القيادية، فإن الأمر يستدعي اختيار هؤلاء طبقاً لأسس موضوعية تخضع لمعايير الحيدة التامة، وتسقط معيار الأقدمية المطلقة، كما أن تقييم من يشغلون المناصب القيادية لا يجب أن يقتصر على ما يبديه الرؤساء من آراء لا تخرج في معظم الأحيان عن العبارات الإنشائية، وإنما يجب أن يتم التقييم من خلال اختبارات للقدرات تبين مدى القدرة على اتخاذ القرار وقيادة الأفراد وحل المشكلات، وكذلك من خلال دورات تدريبية تتفق مع متطلبات الوظيفة القيادية.
وهكذا يمكن القول انه لا مجال للحديث عن أي إصلاح اقتصادي ما لم يواكبه بل يسبقه إصلاح إداري شامل.
وإذا كانت التجارب العشر التي أشرنا إليها في هذا الحوار تتعلق بالعمل الإداري في الأجهزة الحكومية، فإن الأمر لا يختلف كثيراً عنه في حالة المشروعات الخاصة حيث يمكن أن تستفيد إلى حد كبير من هذه التجارب.