د.فهد إبراهيم الشثري
أكثر المؤسسات نجاحاً تلك التي تقفز على التقاليد والأعراف الإدارية القديمة التي توارثتها عبر سنين من الإخفاقات والإحباطات المتتالية. هذه الإخفاقات أورثت قناعات من الصعب تغييرها سواء لدى العاملين في تلك المؤسسات أو لدى المتعاملين معها. وحينما يتقدم أحد الإداريين القادة ليدفع بتلك المؤسسات إلى منحى آخر ومنهج جديد ورؤية طموحة تجده يواجه بسيل كبير ومتوقع من محاولات التثبيط والإقلال من أهمية ما يقوم به. هذا السيناريو يتكرر كثيرا، خصوصاً في المؤسسات العامة التي تمر عليها عقود وهي على حالها، بل إنها تتراجع يوماً بعد يوم. ومهمة الإداري القائد وليس الإداري البيروقراطي أن ينتشل تلك المؤسسات من مصيرها الذي فرض عليها. لكن على الرغم من ذلك، تبقى كثير من المؤسسات العامة على حالها دون تغيير مع انتقال القيادة فيها من إداري إلى إداري آخر. والأمثلة كثيرة في واقعنا، فهناك القليل من المؤسسات العامة التي أحدث قادتها فرقاً سواء في الخدمة التي تقدمها أو في المنهج الإداري الذي تتبعه تلك المؤسسات.
المؤسسة العامة للبريد إحدى المؤسسات القلائل التي أحدثت فرقاً كبيراً خلال سنوات قليلة في منهجها الإداري وفي مستوى الخدمة التي تقدمها، هذا على الرغم من بقائها مؤسسة عامة تلتزم بالتعليمات المالية والإدارية التي تلتزم بها أي مؤسسة حكومية أخرى. لكن القدرة على إحداث التغيير وإرادته لا تقف عند حدود أنظمة المشتريات الحكومية أو أنظمة الخدمة المدنية، ولكنها تقفز على كل ذلك لتثبت أن هناك شيئاً ما يمكن لأي مسؤول حكومي أن يفعله عدا تسيير أمور العمل الروتينية وتحقيق ذاته وتقدمه الوظيفي على حساب المؤسسة بأكملها.
وللمشككين فيما قدمته المؤسسة خلال السنوات القليلة الماضية أن يتعرفوا على الخدمات التي تقدمها ومنها مشروع وطني لا يقل أهمية عن أي مشروع وطني آخر ويمثل الركيزة الأساسية للانطلاق إلى مستوى خدمات متميز في القطاعات الحكومية والخاصة كافة، وهو مشروع العنوان المنزلي الذي قامت بتأسيسه والذي يسهل وصول مختلف الخدمات إلى باب المنزل. هذا المشروع أصبح الآن بمثابة البنية التحتية التي تخدم شريحة واسعة من قطاعات الأمن والأعمال الحكومية والخاصة والأفراد وبما يقارع ما يقدم في هذا الشأن في الدول المتقدمة.
مشروع واصل كان أكثر المشاريع جدلية، فكتب فيه كثيرون وقلل من أهميته بعضهم، لكنهم لم يفكروا في الخلفيات التي نشأ على أساسها هذا المشروع والهدف منه وما يمكن أن يحققه سواء للمواطن أو للمقيم أو لكل صاحب أعمال أو جهة حكومية. وإن كانت الطريقة التي بدأ بها المشروع أثارت حنق كثيرين عليه، إلا أن علينا أن نبحث عن الخلفيات التي جعلته يبدأ بتلك الطريقة التي أثارت انتقادات واسعة. وهنا أهيب بالمؤسسة الحديث بشفافية عن سبب ذلك، فما أعرفه أن السبب كان محاولة من المؤسسة العامة للبريد لتخطي كثير من المعوقات التنظيمية التي وضعت في طريق نجاح مشروع العنوان المنزلي.
مشروع (واصل) ستزداد أهميته يوماً بعد يوم مع تزايد الخدمات الحكومية التي تقدم بشكل إلكتروني، والشاهد على ذلك أن خدمة تجديد الرخص تقدم من خلال مكاتب البريد، وبالتالي يمكن بسهولة الحصول على الرخصة من خلال مكاتب البريد وسيكون من السهل أيضاً إرسالها إلى صندوق بريد (واصل) ومثلما يتم عمله في كثير من الدول المتقدمة. أمر ليس بالمعجزة لكن تخطي العقبات التنظيمية لتحويل هذا المشروع إلى واقع هو الأمر المهم، فكثير من المسؤولين يحملون كثيرا من الأفكار التجديدية الجميلة لمؤسساتهم ، لكنهم يكفون عن المحاولة حالما يواجهون بتلك العقبات التنظيمية.
خدمات حكومية أخرى نجح في تقديمها البريد السعودي من ضمنها خدمة جامعي للتقديم على الجامعات التي سهلت وخففت من الزحام الذي تواجهه الجامعات في أوقات القبول، كما زادت من كفاءة إجراءات المفاضلة لدى الجامعات نفسها، وخدمة تجديد استمارة السيارة، وخدمة إصدار لوحات السيارة وكثير من الخدمات في الطريق. أضف إلى ذلك خدمة مثلت مرتكزاً أساسياً لخدمات القطاع الخاص بمختلف أشكالها وهي خدمة المحدد، التي يمكن من خلالها التعرف على أي خدمة ترغبها في أي حي من أحياء المدينة. هذه الخدمات ستمثل نقلة نوعية لمستوى الخدمات الحكومية ومستوى خدمات القطاع الخاص التي يصبو إليها المواطن عندما يسافر إلى أي دولة من الدول المتقدمة، وما تتطلبه هي زيارة إلى موقع البريد السعودي للتعرف عليها.
ليس هذا المقال محاولة للترويج أو التسويق للمؤسسة العامة للبريد ولكنه جاء نتيجة زيارة شخصية قمت بها للتعرف من قرب على ما يتم عمله في أروقة هذه المؤسسة للارتقاء بخدماتها، ومن أكثر ما أدهشني المستوى المتميز للبنية التحتية التقنية التي أسستها المؤسسة خلال السنوات القليلة الماضية التي تضاهي البنية التحتية في كبرى شركات الاتصالات والتقنية في المملكة، وكل ذلك يدار بيد عاملة سعودية. البريد في كل دولة مشروع وطني ترتبط خدماته بكل المؤسسات الحكومية وقطاع الأعمال والأفراد على حد سواء، ونجاح هذا القطاع في تحقيق طموحاته ورؤيته سيمثل قفزة في مستوى الخدمات في المملكة وعلى جميع المستويات.
http://www.aleqt.com/2009/09/19/article_276710.html