لدى البعض، تعني الليبرالية، بل ويرتبط مفهوم «الليبرالية» بالتفسخ والانحلال الخلقي ومعاداة الدين، ولا شيء غير ذلك. فالليبرالية لدى هؤلاء، هي مذهب يجيز كل شيء، ويبيح كل شيء، ولا مكان للدين أو الأخلاق في أي مجتمع ليبرالي. وكل مجتمع ليبرالي، أو حتى شبه ليبرالي، هو مجتمع فاسد ومنحل.
فالمجتمع الليبرالي، وفق هذا الفهم، هو مجتمع مبني على السعي وراء الملذات، ومكون من أفراد تحكمهم شهوة الفرج والبطن، وحب المال والنساء واللذة العاجلة، ولا شيء خلاف ذلك. والليبرالية لدى البعض هي نقيض الدين، بحيث لا يمكن لليبرالي أن يكون ذا دين، كما لا يمكن لذي الدين أن يكون ليبرالياً، وبالتالي فإن الليبرالي لا بد أن يكون «كافراً» بالضرورة، بمثل ما كان الديموقراطي «كافراً» بالضرورة في قصة أحمد لطفي السيد والانتخابات النيابية في عصره. فقد لجأ خصوم معلم الجيل إلى خدعة سياسة مبتذلة حين أوهموا البسطاء بأن الديموقراطية صنو للكفر، وعندما سألوا أحمد لطفي السيد إن كان ديموقراطياً، أجاب بحماسة أنه كذلك، فجعلوه في قائمة الكافرين. وهذا هو الحادث بالنسبة إلى الليبرالية والقائلين بها، فمفهوم الليبرالية مفهوم ملتبس، وخاصة في مجتمعات لم تعرف إلا السلطوية في تاريخها، ولم تجرب إلا القمع في معاملاتها، ولم تمارس إلا الرأي الواحد والحقيقة الواحدة في حياتها، منذ النسمة الأولى عند الميلاد، وحتى النسمة الأخيرة عند الرحيل.
ليس المراد هنا حقيقة الدخول في شرح فلسفي أو نظري لمفهوم الليبرالية وتجلياتها وتقلباتها واختلاف معانيها منذ ظهور المفهوم، وكيف كانت في حالة من التناقض مع مفهوم الديموقراطية، ثم تحول هذا التناقض إلى تلاحم بعد ذلك، بحيث لا يكون الحديث عن الديموقراطية دون الحديث عن الليبرالية، ولا يكون الحديث عن الليبرالية دون الحديث عن الديموقراطية، بقدر ما أن المبتغى هو نوع من إزالة بعض اللبس عن هذا المفهوم الذي حُمل أكثر مما يحتمل، وظُلم أكثر مما ينبغي. بمعنى آخر، فإن الغاية من هذه المقالة هي بعض تأملات في جوهر الليبرالية، وكيف أنها في النهاية إنسانية المحتوى، غير متناقضة لا مع دين ولا مع أخلاق، بل قد تكون في النهاية دينية الأساس، أخلاقية المنبع.
المنطلق الرئيس في الفلسفة الليبرالية هو أن الفرد هو الأساس، بصفته الكائن الملموس للإنسان، بعيداً عن التجريدات والتنظيرات، ومن هذا الفرد وحوله تدور فلسفة الحياة برمتها، وتنبع القيم التي تحدد الفكر والسلوك معاً. فالإنسان يخرج إلى هذه الحياة فرداً حراً له الحق في الحياة أولاً، وهو ما تعبر عنه إلى حد بعيد مقولة عمر بن الخطاب الشهيرة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، كتعبير فطري عن حقيقة فطرية، ومن حق الحياة والحرية هذا تنبع بقية الحقوق المرتبطة: حق الاختيار، بمعنى حق الحياة كما يشاء الفرد، لا كما يُشاء له، وحق التعبير عن الذات بمختلف الوسائل، وحق البحث عن معنى الحياة وفق قناعاته لا وفق ما يُملى أو يُفرض عليه. بإيجاز العبارة، الليبرالية لا تعني أكثر من حق الفرد ـ الإنسان أن يحيا حراً كامل الاختيار في عالم الشهادة، أما عالم الغيب فأمره متروك في النهاية إلى عالِم الغيب والشهادة. الحرية والاختيار هما حجر الزاوية في الفلسفة الليبرالية، ولا نجد تناقضاً هنا بين مختلفي منظريها مهما اختلفت نتائجهم من بعد ذلك الحجر، سواء كنا نتحدث عن هوبز أو لوك أو بنثام أو غيرهم. هوبز كان سلطوي النزعة سياسياً، ولكن فلسفته الاجتماعية، بل حتى السلطوية السياسية التي كان يُنظر لها، كانت منطلقة من حق الحرية والاختيار الأولي. لوك كان ديموقراطي النزعة، ولكن ذلك أيضاً كان نابعاً من حق الحرية والاختيار الأولي. وبنثام كان نفعي النزعة، ولكن ذلك كان نابعاً أيضاً من قراءته لدوافع السلوك الإنساني (الفردي) الأولى، وكانت الحرية والاختيار هي النتيجة في النهاية.
أن يكون الإنسان متمتعاً بحرية الاختيار لا يعني أن يكون الأمر مطلقاً. ففي «ليفايثون» هوبز كان الإنسان مطلق الحرية في «حالة الطبيعة»، ولكن هذه الحرية كانت تعني حرية القتل والدمار فيما عنت من حريات، ومن هنا «اختار» الإنسان أن يتنازل عن بعض حريته لكائن جبار (ليفايثون، أو الدولة) من أجل أن يستطيع التمتع ببقية حقوقه وحرياته الطبيعية. الحرية، أو لنقل حرية الاختيار تحديداً، وإن كانت في معناها الأصلي انتفاء القيد، إلا أنها مجبرة أن تكون مقيدة بقيدين أساسيين من أجل ذات الحرية، إذا كان الحديث عن مجتمع متمدن: حرية وحقوق الآخرين، والقانون الذي يشكل خريطة الحقوق والحريات، وبالتالي المحدد لتلك الدوائر التي يستطيع الفرد أن يتحرك في إطارها ممارساً لحريته، دون أن يكون معتدياً على حريات الآخرين. فالمجتمع في النهاية ليس إلا مجموعة من الأفراد لهم ذات الحقوق والحريات، وإذا لم تؤطر هذه الحقوق والحريات بإطار يبين متى تبدأ حرية هذا وتنتهي حرية ذاك، فإن حالة الطبيعة الهوبزية هي المآل، وليس العراق اليوم إلا مثلاً على ذلك، حيث تسود حرية مطلقة تسمح بكل شيء، بما فيها حرية القتل. المجتمع الأميركي أو البريطاني أو الفرنسي هي مجتمعات ليبرالية إلى حد كبير، للفرد أن يفعل فيها بحرية ما يشاء، ولكن دون اعتداء على حرية الآخرين، أو استفزازهم، فالكل هنا متساوون أمام قانون مهمته تنظيم العلاقات الناجمة عن حرية الاختيار. قد لا يرى البعض في الغرب الليبرالي عموماً إلا شذوذا جنسيا، وعلاقات محرمة، وممارسات خاطئة، ولكن هل قام الغرب على مجرد هذه الأشياء؟ طبعا لا ، كما ان هناك في الغرب من لا يرى في الحضارة الاسلامية الا صورة الارهاب وقمع المرأة والتخلف، وهي نظرة منحازة.
فإن كانوا كذلك، واستطاعوا الهيمنة على عالم اليوم، ومنهم نحن بطبيعة الحال، فتلك إشكالية نحن محورها وليس الغرب. وإن كان هنالك وجوه أخرى للحقيقة، فلماذا نختزلها في ممارسات هي موجودة في مجتمعاتنا، وربما أكثر مما يحدث هناك، ولكن «الحرية» السائدة هناك، والمعدومة هنا، تسمح أن نعرف ما يجري في ديارهم، ولا تسمح بتشويه صورة الملاك في ديارنا. حرية الاختيار، وإن عنت في بعض جوانبها ممارسات غير مرضي عنها أخلاقياً، إلا أنها تعني أيضاً حرية الرأي دون قمع، حرية البحث دون قيود، حرية القول دون تكميم، حرية الصحافة دون توجيه، حرية التعبير بلا حدود، حرية النقد دون تابوهات، حرية المعتقد دون كبت.
وفي العلاقة بين الليبرالية والأخلاق، أو الليبرالية والدين، فإن الليبرالية لا تأبه لسلوك الفرد طالما أنه لم يخرج عن دائرته الخاصة من الحقوق والحريات، ولكنها صارمة خارج ذلك الإطار. أن تكون متفسخاً أخلاقياً، فهذا شأنك. ولكن، أن تؤذي بتفسخك الأخلاقي الآخرين، بأن تثمل وتقود السيارة، أو تعتدي على فتاة في الشارع مثلاً، فذاك لا يعود شأنك. وأن تكون متدينا أو ملحداً فهذا شأنك أيضاً، وهو أيضاً ما بشرت به كافة الأديان: «قد تبين الرشد من الغي، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، ولكن أن تفرض معتقدك على الآخرين، فهذا ليس من شأنك، بل اعتداء على دوائر الآخرين وحرية الاختيار لديهم.
قد يُصدم البعض من مثل هذا الحديث، ولكن الحقيقة في النهاية تفرض نفسها. فبفرض اعتقادك على الآخرين، لسبب أو آخر، فإنك قد تحولهم إلى معتقدك ظاهراً، ولكن هل يتحول الضمير باطناً؟ هذا هو السؤال، وهنا يكمن الفرق بين المجتمع الليبرالي والمجتمع الشمولي أو الثيوقراطي أو السلطوي: الليبرالية تسمح بتوافق الظاهر والباطن، فيما بقية الأشكال تجعل التناقض هو أساس العلاقة بين الظاهر والباطن (ظاهرة النفاق). فقد لا تكون شيوعياً أيام اتحاد السوفيت، بل وقد تكره الشيوعية، ولكنك لا تستطيع إلا أن تمجد الشيوعية، وتتغنى ببطولة لينين، وأمجاد ستالين، وصلابة خروتشوف، وانجازات بريجينيف، وكذلك الأمر في عراق صدام، وسورية الأسد، وليبيا القذافي، وكوبا كاسترو، وصين ماو، وإيران الشاه والخميني (لا فرق).. النفاق هو الفلسفة السائدة، والسلوك المهيمن في مثل هذه الحالات، وهنا يكمن الفرق بين الحالة الليبرالية وغيرها، حيث تنتفي ظاهرة النفاق في الحالة الليبرالية، وينسجم الظاهر مع الباطن، وتنتفي الأقنعة...
تركي الحمد