التنمية وانطواء الكفاءات
د. عبد العزيز بن عبد الله الخضيري - كاتب متخصص في التنمية 12/05/1428هـ
شعار القرن الحالي هو الاستثمار في الموارد البشرية وتطويرها بما يضمن ريادتها، وبعض دول العالم اليوم أصبحت تربط بشكل مباشر بين بناء الكفاءات البشرية ومشاريعها الاقتصادية التنموية، هذا الربط أصبح عنصرا أساسيا في العديد من المشاريع الاقتصادية بحيث يخصص جزء من تكلفة المشروع لتعليم وتدريب وتأهيل وتطوير هذه الموارد البشرية. ودول أخرى تنظر إلى مواردها البشرية كمصدر استثمار مباشر من خلال تصدير تلك الكفاءات البشرية للعمل في مختلف معاهد وجامعات وشركات الدول الأخرى بعد أن ضمنت بناءً مؤسسياً في دولها لهؤلاء الكفاءات، ورحلة هذه التجارب ونجاحاتها لا تخفى على المهتمين بهذا الشأن.
والسعودية, ولله الحمد, استطاعت خلال العقود الماضية أن تُدرِّس وتبتعث مئات الآلاف من الكفاءات السعودية من الجنسين لمختلف الجامعات والمعاهد للتعليم والتدريب واكتساب المعارف والمهارات، وكان لهذه الكفاءات السعودية دور مميز في مراحل تنفيذ خطط التنمية الخمسية في المملكة، إلا أن ما يجب الوقوف أمامه ومحاولة فهمه وتقويمه وتقييمه هو ظاهرة انطواء بعض هذه الكفاءات البشرية وابتعادها عن المشاركة في المرحلة الحالية للتنمية في المملكة التي هي في أمس الحاجة إليهم، هذه الكفاءات أو بعضها اختفى خلف مكتب مظلم لا يرغب في العمل أو التطوير أو المشاركة ويُؤْثِر الابتعاد عن العطاء والعمل الوطني المخلص.
لقد طرحت هذا الأمر وحاولت البحث عن الأسباب التي دفعت العديد من الكفاءات السعودية, خصوصاً بين الرجال, للابتعاد وعدم المشاركة في هذه المرحلة التنموية المهمة.
أعلم وتعلمون جميعاً أن مثل هذا الموضوع يحتاج إلى بحث أو بحوث متخصصة, خصوصاً عندما تصبح ظاهرة ضمن كفاءاتنا السعودية وبالذات في القطاع الحكومي, ولكن رغبة في تلمس الأسباب وطرح الأسئلة ومحاولة الإجابة المنفردة عنها أو على أقل تقدير الإشارة إليها والتنبيه لها، كتبت عنها هذا اليوم أملاً في طرحها بشكل متكامل وإيجاد العلاج الناجع لها.
ما نراه اليوم من انحدار وضعف في الاستفادة من الكفاءات السعودية وانطوائها يبرز من خلال العديد من الأسباب, لعل منها على سبيل المثال ما يلي:
1 ـ إحساس بعض تلك الكفاءات بأن الجهود التي يبذلونها في الدراسات والتخطيط والعمل الدؤوب تصطدم بالعديد من المعوقات التنفيذية, مما ترى معه تلك الكفاءات أن جهودها غير مُستفاد منها.
2 ـ اعتقاد بعضهم أن العلاقات الاجتماعية والشللية هي التي تحدد وصول الإنسان إلى المراكز القيادية, وأن الكفاءة تأتي في مراتب متأخرة.
3 ـ ضعف صوتهم في إبراز القضايا التي تهتم بالشأن العام والتنمية الشاملة.
4 ـ إشارة بعضهم إلى أن حلقات المصالح الخاصة والفساد أصبحت لها علاقات وكيانات تدعم بعضها بعضا ضد التطوير والإصلاح وتقتل الكفاءات أو تهمشها.
5 ـ الكفاءات ضحت بالكثير في سبيل التعليم والتدريب والإخلاص في العمل وفي النهاية لا تستطيع تحقيق ما تصبو إليه بينما الآخر ممن لم يضيع عمره ووقته في بناء ذاته أخذ كل شيء، الوظيفة، المال، الجاه, والحماية.
6 ـ بينت بعض تلك الكفاءات إحساسها أن الاهتمام بالتطوير غير حقيقي وأن الوقت يستهلك، ويهلك صاحب الصوت المُطالب بالإصلاح والتطوير على أساس أن كل التوجيهات الخيرة "كلام مليان كلام فاض".
7 ـ المقاومة التي يتعرضون لها عند رغبتهم في تطوير أعمال أجهزتهم، لأن التطوير يجد مقاومة قوية داخل الأجهزة أولاً ثم المجتمع ثانياً، وهذا التطوير يُعرضهم للنقد الجارح.
8 ـ إحساسهم بغياب الآليات الصحيحة لتقويم الأداء, وإنما التقويم يتم من خلال منهجية عقيمة أو من خلال أصحاب المصالح الخاصة ذوي الأصوات المسموعـــة، أو أن التقويـــم يتم في الجوانب الإدارية التقليدية غير الإبداعية أو الإنتاجية أو التطويرية.
9 ـ عدم حمايتهم من الأجهزة المعنية بهم عند اتخاذ القرار الحاسم، وجعلهم عرضة للمساءلة، ولهذا نما بين بعضهم مفهوم "خل الدرعى ترعى".
10 ـ إن المحاسبة على الخطأ أكبر وأصعب بينما الانطواء وقلة العمل يقللان الأخطاء, وبناء عليه ترى هذه الكفاءات أن قلة العمل أو عدم العمل أفضل.
11 ـ إن الحزم في العمل والانضباط والحرص على الإنتاجية وتطوير وسائل وأساليب العمل تؤدي إلى تجييش غير الراغبين في ذلك من خلال تكتلات تحاول اصطياد الأخطاء وتعظيمها والإساءة إلى تلك الكفاءات، وانتظار الفرصة للانقضاض عليهم والتخلص منهم.
13 ـ إحساس بعض تلك الكفاءات بأن المساحة المعطاة لهم والإمكانات المسخرة لذلك ليست كما ينبغي، وتبرز هنا المقارنة بالكفاءات في الدول الأخرى.
13 ـ ترى بعض تلك الكفاءات أن المركزية وطول إجراءات اتخاذ القرار في الأجهزة الحكومية تقتل القدرة على الإبداع والتطوير, مما يدفعها للانطواء وعدم العمل.
14 ـ عدم التمييز بين الكفاءات العاملة لصالح أجهزتها, التي تواصل الليل بالنهار دون مقابل مادي ومعنوي مميز لهذا الجهد والعطاء, بينما زملاؤهم الآخرون يعملون الليل والنهار لمصالحهم الشخصية خلف شركات ومؤسسات ومحال تجارية بأسماء زوجاتهم أو أحد أقاربهم ولا يعطون للعمل الحكومي حقه ووقته إلا ما يخدم مصالحهم الخاصة فقط، ولهذا تجدهم في الدوائر ذات العلاقة بتلك المصالح لإنهائها بدلا من عملهم في أجهزتهم التي يجب أن يعملوا فيها ويتسلموا رواتبهم منها.
15 ـ عدم حماية تلك الكفاءات من الشكاوى الكيدية التي يبرع فيها فئة من المجتمع، بمستويات تعليمية عالية ومتوسطة وضعيفة وتجد من يدعمهم في العديد من الأجهزة الحكومية الأخرى، ربما انتقاماً من تلك الكفاءات لدفعها إلى الانطواء.
16 ـ إحساس بعض الكفاءات الإقليمية بالفوقية التي يمارسها عليهم بعض زملائهم في الأجهزة الحكومية المركزية, ما يدفعهم إلى الانطواء وعدم التواصل معهم لتطوير العمل.
وأخيراً هذه قائمة عاجلة غير مرتبطة الأولوية أو الأهمية ببعض الأسباب التي تؤدي إلى انطواء الكفاءات وعدم عملها ودعمها مرحلة التنمية والإصلاح الوطني، هناك العديد من الأسباب التي ربما لم ترد على الخاطر أو أن المساحة المعطاة في الصفحة لا تتحملها، ولهذا أرجو من كل من يستطيع أن يضيف إلى القائمة أسبابا أخرى ألا يحرمني هذا الفضل, حتى نستطيع جميعاً أن نُشخص الحالة ونقدم العلاج حباً في وطن سعودي الانتماء، عربي اللسان، إسلامي الدين، عالمي الطموح. وفق الله الجميع.
وقفة تأمل:
من عاشر الناس لاقى منهم نصباً
لأن طبعهم بغي وعدوان
من استنام إلى الأشرار نـــــــام وفي
قميصه منهم صل وثعبان
من استعان بغير الله في طلــــــب
فإن ناصره عجز وخذلان
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً
فإنه الركن إن خانتك أركان
وكل كســــر فـــإن الله يجــــــــبره
وما لكــسـر قناة الديـن جـبران