يذكر كثير من محبي الأدب والمثقفين وأهل الفلسفة هذا الرجل بشيء من الثناء والتعظيم ، متأثرين بما في أشعاره و كُتُبه من أفكار فلسفية و أسلوب جذاب 0
و الحق أن في كثير من شعره كفراً و زندقة و إلحاداً وتشكيكاً في الدين والعقيدة ، كقوله :
تناقضٌ مالنا إلا السكوت له = وأن نعوذ بمولانا من النار
يدٌ بخمس مئينٍ عسجدٍ وُدِيَتْ = مابالها قُطِعَتْ في ربع دينار
يقول : إن الدين فيه تناقض ، اليد ديتها خمسمائة دينار ذهب ، مالكم تقطعونها إذا سرقت ربع دينار ، وهذا من عمى بصيرته و قلة عقله وعلمه و دينه ، و كان لما قال هذا في بغداد ، فطلبه الفقهاء لأخذه بهذا الشعر وغيره فهرب و عاد إلى الشام ولزم بيته بمعرة النعمان ، وسمَّى نفسه ( رهين المحبسين ) أي حبس العمى وحبس البيت 0
وقد ردّ أحدهم على بيتيه السابقين بقوله :
عز الأمانة أغلاها ، وأرخصها = ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
وقال أحد الفقهاء : لما كانت أمينة ؛ كانت ثمينة ، فلما خانت ؛ هانت 0
قال عنه ابن كثير رحمه الله : كان ذكياً و لم يكن زكياً 0
ومن شعره الدال على الانحلال من الدين قوله :
إذا كان لا يحظى برزقك عاقلٌ = و ترزق مجنوناً وترزق أحمقا
فلا ذنب يارب العباد على امرئٍ = رأى منك مالا يشتهي فتزندقا
وقوله :
فلا تحسب مقال الرسل حقّاً = ولكن قول زورٍ سطّروه
و كان الناس في عيشٍ رغيدٍ = فجاؤوا بالمحال فكدّروه
و قد قال ابن كثير معارضاً له :
فلا تحسب مقال الرسل زوراً = و لكن قول حقٍّ بلَّغوه
و كان الناس في جهلٍ عظيمٍ = فجاؤوا بالبيان فأوضحوه
و قد ألّف كتباً كفرية ، مثل كتاب ( الفصول والغايات في معارضة السور والآيات ) قال ابن الجوزي عن هذا الكتاب إنه في غاية الركاكة والبرودة ، وقد ذكروا أنه مكث خمساً و أربعين سنة لا يأكل اللحم ولا اللبن ولا البيض و لا شيئاً من الحيوان ؛ على طريقة البراهمة الفلاسفة ، وقيل إنه اجتمع براهب أثناء عودته ليلاً من بعض النواحي فشكّكه في دين الإسلام 0
و قد ولد بمعرة النعمان سنة 363 هجرية ، و أصابه الجدري بطفولته فذهب ببصره ، و قد دخل بغداد سنة 399 هجرية ، ثم خرج منها بعد سنة طريداً مهزوماً بسبب شعره المليء بالإلحاد 0
قال عنه الباخرزي ، صاحب كتاب دمية القصر : " ضرير ؛ ماله في الأدب ضريب ، ومكفوف ؛ في قميص الفضل ملفوف ، ومحجوب ؛ خصمه الألدّ محجوج ، قد طال في ظلال الإسلام أناؤه ؛ ولكن ربما رشح بالإلحاد إناؤه ، و عندنا خبر بصره ؛ والله العالم ببصيرته ، و المطّلع على سريرته 0
قال فيه القاضي أبو جعفر محمد بن إسحاق الزوزني :
كلبٌ عوى بمعرّة النعمان = لما خلا من ربقة الإيمان
أمعرّة النعمان ما أنجبتِ إذ = خرَّجتِ منكِ معرة العميان
و قد ذكر بعضهم أنه تاب و رجع عن إلحاده و فسوقه ، وأنه قال قصيدة يعتذر عن هذا كله ، ومنها :
يا من يرى مدّ البعوض جناحها = في ظلمة الليل البهيم الألْيَلِ
و يرى مناط عروقها في نحرها = و المخّ في تلك العظام النحّل
امنن عليّ بتوبةٍ تمحو بها = ما كان مني في الزمان الأول
مات سنة 449 هجرية ، في ربيع الأول ، عن ست وثمانين سنة ، و دفن بالمعرة ، و قد رثاه جماعة من أصحابه وتلامذته عند قبره بنحو ثمانين مرثاة 0
و قال ابن الجوزي : إن من رثاه إما جاهل بأمره أو ضال على مذهبه وطريقته 0
و من كتبه : رسالة الغفران ، سقط الزند ، الأيك و الغصون ، اللزوميات 0تقبلوا تحية : المواصل 0