صُنَّاع الفقر في سوق الأسهم السعودية
أن تتحرك الأسواق المالية صعوداً وهبوطاً فذاك أمر لا خلاف فيه، بل هو جزءٌ من آليات الأسعار ودينامايكية السوق. وكلما واصلت أسواق المال ارتفاعاتها، أو انخفاضاتها الحادة، وضع الاقتصاديون أيديهم على قلوبهم خوف الكارثة، إلاّ أن تكون التغيرات مبررة عطفاً على أداء الشركات والاقتصاد الكلي.
الحركة المتناغمة لأسواق المال هي التي تكسبها ثقة المتداولين، أما التحركات الحادة، صعوداً وهبوطاً، فلا تعدو أن تكون سبباً من أسباب الدمار ونزع الثقة منها. ما الفرق بين الاستثمار في أسواق المال ومقارعة المقامرين على طاولات (الروليت)؟. يفترض أن يكون الاستثمار في أسواق المال متوقع العوائد نسبياً، ومحسوب المخاطر؛ قد تكون هناك احرافات لتوقُّعات المضاربين الحذقين، إلاّ أنّها يفترض أن تكون دائماً ضمن إطار التوقعات المحسوبة.
أما مقارعة المقامرين على طاولات الروليت فهي عملية لا تخضع للفكر والتحليل وضوابط الحركة المالية المقننة، إضافة إلى أنّها لا تعرف التوازن بين الربح والخسارة، فإمّا الغنى وإمّا الفقر والعياذ بالله.
أمّا عمليات وقف الخسارة، وجني الأرباح فهي من الأدوات غير المتاحة في صالات المقامرة، حمانا الله وإياكم منها. هناك نقطة تشابه بين أسواق المال وصالات المقامرة، فأسواق المال تمتاز بوجود (صانع السوق) الحذق الذي يعمل دائماً على حفظ توازن السوق وجعلها تتحرك ضمن نقاط محددة، ولا يسمح لها بالشطحات الحادة إلى الأعلى أو الأسفل، فالاتجاهان سواء لديه وهما مؤشر الخطر الذي يجب مقاومته بالسيولة أو الأسهم. أي أنّه (صانع السوق) يهدف في المقام الأول إلى المحافظة على استثمارات الآخرين، وعدم الزج بها في أُتون المقامرة المهلكة، وهو في مقابل ذلك يحقق أرباحاً مجزية في المتوسط، على أساس أنّه يتعرض أحياناً للخسارة جراء معاكسته اتجاه السوق والمتداولين. أمّا صالات المقامرة فلديها أيضاً صانع سوق (أو صانع المقامرة) وهو المقامر المحترف الذي يدفع له ملاّك الصالة أجراً مقابل العمل على خسارة الآخرين عن طريق الغش والتدليس. هناك نقطة تشابه أخرى سأعود لها لا حقاً وتتعلق بالفاتنة التي ترغم مرتادي صالة المقامرة على نفض ما في جيوبهم من أموال تحت تأثير الإغراء الجسدي.
الآن وبعد أن عرضنا مواصفات صانع أسواق المال الحقيقي، وصانع صالات المقامرة، ترى أي المواصفات أقرب لمتعهدي صناعة السوق السعودية؟.
قبل أن أجيب يفترض أن أوضح أنّ السوق السعودية لا تمتلك صانع السوق الرسمي، وآخر ما سمعنا عن صناعة السوق كانت بعيد انهيار فبراير الماضي، وما أطلق عليه في حينه (صندوق التوازن)، وهو الصندوق الذي أعقب قرار إنشائه انهيارين مدمرين، وهو لا يزال في طور التكوين (المستندي) حتى الساعة!! .. أي أنّنا أمام سوق تفتقد أهم أدواتها المؤثرة. ومع ذلك فهناك مجموعة من كبار المستثمرين الذين آلوا على أنفسهم دعم السوق وانتشالها من مستنقع الانهيار وهم في سبيل ذلك استثمروا مليارات الريالات، وتحمّلوا الكثير من الخسائر من أجل مصلحة الوطن، وحماية السوق والمستثمرين، فهم يشكِّلون المجموعة الذهبية التي يمكن أن نطلق عليها اسم (الصناع المنضبطين) عطفاً على دورهم الوطني المشهود، إلاّ أنّ نقص التشريعات الرسمية المنظمة لصناعة السوق أضعفت خططهم الهادفة إلى إعادة الثقة والقوة لسوق الأسهم السعودية.
خلافاً لصنّاع السوق المنضبطين، هناك بعض من أَطلق على نفسه تجاوزاً اسم (صانع السوق) اعتماداً على مقدرته في تحريك السوق وتوجيهها حيثما شاء. وحتى لا نزعل النساء علينا، فلا مانع من أن نقول صانع سوق، وصانعة سوق، تيمُّناً بالكتّاب الغربيين الذين دأبوا على كتابة He, She من أجل ألاّ يتهموا بالعنصرية النوعية أو التحيُّز ضد النساء.
نعود لمواصفات أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم تجاوزاً مصطلح (صنّاع سوق الأسهم السعودية) وهم ليسوا إلاّ مجموعة من مخالفي الأنظمة والقوانين؛ ففي اعتقادي إنّ بعض هؤلاء المخالفين يمكن أن يكونوا أقرب إلى صنّاع صالات القمار منهم إلى صناع السوق الحقيقيين. على أساس أنهم يبحثون عن تعظيم أرباحهم الخاصة على حساب إفقار الآخرين، وليس على أداء السوق وحركة الأسعار الطبيعية. قد يعترض البعض ويقول إن خسارة ريال واحد في سوق الأسهم ما هي إلاّ ربح يسجله طرف آخر في السوق. وهو أمر واقع إلاّ أنّ في الأسواق الكفوءة تبنى توقُّعات الربح والخسارة على أداء الشركات وربحيتها وأداء السوق والاقتصاد الكلي، أما في الأسواق (المختطفة) كسوق الأسهم السعودية فهي تبنى على أدوات التحكم والسيطرة، ومن أهم أدواتها السيولة الضخمة، وصناعة السوق المعتمدة على التدليس والخداع. يا له من اتهام خطير!!، فليكن طالما أن الحقائق موجودة، والقرائن مثبتة في نظام تداول وهي لا تحتاج إلاّ لمن يستخرجها منه. من اشترى كميات ضخمة من الأسهم على النسبة القصوى مطلع الأسبوع الماضي ثم عاد ليبيعها يومي الاثنين والثلاثاء على النسبة الدنيا بخسارة كبيرة - وقبل هذا تلبيته لجميع طلبات الشراء الضخمة تجعل كبار المضاربين يتأكدون من تلبُّد سماء السوق بالغيوم - لا يمكن أن يكون إلاّ أحد أدوات التخريب والتدمير في سوق الأسهم السعودية. فقدان المؤشر 521 نقطة، وخسارة السوق لأكثر من 100 مليار ريال في يوم واحد يمكن أن يدرج ضمن أدلة التخريب المتعمد!!!.
على العموم خسارة المؤشر لـ521 نقطة في ساعات يمكن أن تصنف ضمن الانهيارات في أسواق المال العالمية، أما في سوقنا المصونة، فخسارتها أكثر من 13000 نقطة ما زالت تتعامل معها الجهات الرسمية على أنها جزء من (عملية التصحيح)!!!.
بعض صنّاع السوق مخالفي الأنظمة والقوانين، وهم قلّة، يمكن تصنيفهم ضمن قائمة (صنّاع الفقر) والعياذ بالله. لا تطمئن نفوسهم حتى يُفرغوا ما في جيوب المتداولين من أموال، كما يفعل دائماً صانع صالات القمار. تعاهدوا أن لا يرى سوق الأسهم النور أبداً، فكلما قام من كبوة تسببوا فيها، أسقطوه في حفرة أخرى، وهكذا دواليك. الغريب أنهم كلما اجتهدوا في حَفر الحفر ازدادوا ملاءة وثروة، وازداد المتداولون فقرا. ألم أقل إنّهم جزءٌ من صناعة الفقر لدينا!!!.
قبل أن أختم، يفترض أن أعود إلى النقطة التي وعدت بتفصيلها، والمتعلقة بالفاتنة التي تدفع مرتادي صالة المقامرة على نفض ما في جيوبهم من أموال مقابل إغراءاتها الحركية. ولأننا بلد مسلم محافظ، ولا مجال لاستخدام الإغراءات المكشوفة فقد استخدم بعض الصنّاع طريقة أخرى لإغراء ضحاياهم من المتداولين، وهي طريقة الإغراء بالطمع!!. فإغراء فاتنة صالة القمار يعتمد على تحريك الغرائز الجسدية، أما إغراء صالات الأسهم لدينا فيعتمد على إثارة مكامن الطمع لدى المتداولين من خلال النسب الخضراء. فكل شركة (خشاشية) تغلق على النسبة القصوى لا تعدو أن تكون إحدى الفاتنات المكلفات باستنزاف جيوب المتداولين وإرغامهم على دخول السوق القسري، برغم المخاطر المحدقة. وكلما زاد عدد الفاتنات الغاويات (النسب الخضراء) ازداد صيدهن للمتداولين. وكما تنسحب فاتنة صالة القمار بهدوء مخلِّفة وراءها قلوباً محطمة وجيوباً فارغة، فالنسب الخضراء أيضاً تنسحب، إلاّ أنّ انسحابها عادة ما يكون أشد وطأة، على أساس إشاراتها الحمراء القاتلة(النسب الدنيا). فاتنة صالة القمار قد تتلطف بكلمة مواساة عابرة قبل اختفائها، أما فاتنة صالات الأسهم فهي الفاتنة اللوامة، الفاضحة، التي تصر على تدمير الخاسرين أموالهم وتحطيهم بكل قسوة وجبروت، ثم تترك مسؤولية الإجهاز عليهم لبعض (أبواق الغفلة والتضليل) وهم أدوات صنّاع السوق؛ مدخلي الحيرة في نفوس المتداولين؛ المكثرين اللوم، المقلين النصح، العاثين في السوق دمارا.
هناك عنصر مهم في صالات القمار قَصُرَت أفكاري عن ربطه أو تشبيهه ببعض عناصر السوق المحلية، وهم حراس الصالات Body Guard الذين يتولون أمر المعترضين من المقامرين على خسائرهم لأسباب متعلقة بالغش والخداع، فيلقون بهم على وجوههم خارج الصالة، بل ويتهمونهم بإساءة النظام، وعدم إتقانهم أصول اللعبة. يتهمون البريء ويبرئون المتهم. فهل أجد من القراء من يعينني على تحقيق الربط التشبيهي المتوازن بين العنصرين!.
فضل بن سعد البوعينين