بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ..
تقول القصة إنه كان رجلا عالما أديبا عارفا بفنون الشعر والإنشاء. وكان شديد الحب لزوجته وابنة عمه, لكنه اضطر أن يفارقها في بغداد ويرحل إلى الأندلس بسبب فاقة نزلت به. لم تكن ابنة عمه ترغب أن يضرب بعلها أكباد الإبل ويخوض غمار المحيطات من بغداد إلى أوروبا من أجل عطاء قد لا يتيسر, لكنه أصر على موقفه, وقصد أبا الخيبر عبد الرحمن الأندلسي في الأندلس, فمدحه بقصيدة عصماء, لكنه أعطاه عطاء قليلا. سقط في يد ابن زريق وتمتم: إنا لله وإنا إليه راجعون, سلكت القفار والبحار إلى هذا الرجل, فأعطاني هذا العطاء! ثم تذكر فراق زوجته وما بينهما من المسافات الشاسعة, وفكر في ما آل إليه من فقر وبؤس, فاعتل غما ومات.
يقال إن الوالي الأندلسي أراد بذلك العطاء اليسير أن يختبره, فلما مضت بضعة أيام, سأل عنه, فالتمسوه, فإذا هو في الخان الذي كان فيه, وإذا هو ميت, وتحت رأسه رقعة كتب فيها قصيدته الشهيرة التي مطلعها (لا تعذليه فإن العذل يوجعه).
لم يتحمل ابن زريق صدمة هذا الوالي البخيل, وشعر أنه راهن على حصان خاسر, وأنه تنازل عن كل شيء من أجل لا شيء, وأن رحلته الطويلة المريرة لم تثمر سوى الخيبة والحسرة. جاشت في نفسه مشاعر شتى: صورة حبيبته وهي تودعه وتذرف دموع الفراق في منطقة الكرخ من بغداد, وصورة الطريق الطويلة المحفوفة بالمخاطر, وصورة الانكسار أمام ذلك الرجل الذي لم يكرم وفادته, ولم يحسن معاملته. عندئذ, انثالت أبيات ابن زريق الخالدة, وسجل لنا التاريخ واحدة من عيون الشعر العربي.
يقول مخاطبا زوجته:
لا تعذليه فإن العذلَ يوجعُه
قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعُه
جاوزت في لومه حداً أضرَّ به
من حيث قدرت أنَّ اللومَ ينفعه
فاستعملي الرفقَ في تأنيبه بدلاً
من عذله فهو مضنى القلب موجَعُه
ما الفائدة من العذل واللوم؟ إنهما لن يعيدا عقارب الساعة إلى الوراء, ولن يصلحا ما فسد. ليته لم يغامر منذ البداية, لكن هل تنفع ليت؟
ليتَ وهل تنفع شيئاً ليتُ... ليتَ شباباً بُوعَ فاشتريتُ
والمأزوم المهموم لا يجدي معه التقريع والتوبيخ, بل اللطف والمواساة وتطييب الخاطر, حتى لا يصاب بنكسة تذهب عقله وتقلب فؤاده.
ويمضي شاعرنا فيقول:
ما آبَ من سفر إلا وأزعجه
عزمٌ إلى سفر بالرغم يزمعه
كأنما هو في حل ومرتحل
موكلٌ بفضاء الله يذرعه
في أبيات رقيقة مؤثرة:
وما مجاهدة الإنسان توصله
رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعُه
قد قسَّم الله بينَ الخلق رزقهمو
لم يخلق الله من خلق يضيعه
لكنهم كلفوا حرصاً فلستَ ترى
مسترزقاً وسوى الغايات تقنعه
والحرصُ في الرزق والأرزاقُ قد قسمتْ
بغيٌ ألا إن بغيَ المرء يصرعه
يتحدث ابن زريق في قصيدته الحزينة عن فراق ابنة عمه, وسعيها لثنيه عن عزمه, ومما قال في هذا السياق:
أستودع الله في بغدادَ لي قمراً
بالكرخ من فلك الأزار مطلعُه
ودعتُه وبودي لو يودعني
صفوُ الحياة وأني لا أودعُه
وكم تشبّث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلاتٌ وأدمعه
يقول ابن زريق في سياق تأنيب نفسه:
رزقتُ ملكاً فلم أحسنْ سياسته
وكلُّ من لا يسوسُ الملكَ يُخلعه
"كل من لا يسوس الملك يخلعه". وقد قالت أم عبد الله الأحمر لابنها (آخر ملوك الأندلس) الذي كان يبكي عشية سقوط غرناطة:
ابك مثلَ النساء ملكاً مضاعاً
لم تحافظ عليه مثلَ الرجال
وحده من يغرس حسن التدبير يجني الربح الوفير, كما قال محمد إقبال:
أليس من العدالة أن أرضي
يكون حصادها للزارعينا
ويواصل ابن زريق إمتاعنا قائلاً:
ومنْ غدا لابساً ثوبَ النعيم بلا
شكر عليه فإنَّ الله ينزعُه
مضيفاً:
كم قائل لي ذقتَ البين قلتُ له
الذنبُ والله ذنبي لستُ أدفعُه
هلا أقمتُ فكان الرشدُ أجمعه
لو أنني حين بان الرشدُ أتبعه
ويتحسر ابن زريق على زوجته الغالية قائلاً:
ما كنت أحسبُ أن الدهرَ يفجعني
به ولا أن بي الأيامُ تفجعه
حتى جرى الدهر فيما بيننا بيد
عسراءَ تمنعني حقي وتمنعه
وهنا يهتف ابن زريق:
بالله يا منزلَ القصر الذي دَرَسَتْ
آثاره وعفتْ مذ بنتُ أربُعُه
هل الزمانُ معيدٌ فيك لذتنا
أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله منْ أصبحتَ منزله
وجاد غيثٌ على مغناك يُمرعه
وما الحيلة إذن يا ابن زريق؟ هل تملك دفع الضر عنك؟ هل تملك عصا سحرية تحيل فقرك مالا جما وحالا جميلة؟
يجيب الشاعر:
لأصبرنَّ لدهر لا يمتعني
به ولا بيَ في حال يمتعُه
علماً بأنَّ اصطباري معقبٌ فرجاً
فأضيقُ الأمر إنْ فكرتَ أوسَعُه
عسى الليالي التي أضنتْ بفرقتنا
جسمي ستجمـعني يوما وتجمــــعه
يختم ابن زريق قصيدته بالقول:
وإنْ تغلْ أحداً منا منيته
فما الذي بقضاء الله نصنعه
منقول لعيونكم .. بتصرف