.......................
روبنسون كروزو وحي بن يقظان
"
في سياق المقارنة بين قصتي روبنسون كروزو وحي بن يقظان يمكن استنتاج التمايز بين العقلين الغربي والشرقي، عقل يغوص في المادة ويغرق فيها فينسى ذاته وينسى سؤال الكينونة؛ وعقل يتشوف إلى الـ ما وراء وينزع نحو تأمله
"
إن نمط تفكير الحضارة الغربية نمط ذو نزوع كمي متمحور حول الأشياء، ولذا فأسلوب مقاربته للوجود هو انتهاج للتحليل الكمي الأداتي المفارق لفلسفة الغايات المجاوزة لسياجات الحس المادي.
وفي هذا السياق يمكن أن نستحضر تلك المقارنة الذكية التي أنجزها مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" بين قصتي "روبنسون كروزو"، "حي بن يقظان".
واستحضاره لهذين النموذجين الروائيين كان مدخلا لبحث نمطي الرؤيتين الغربية والشرقية. فقصة "روبنسون كروزو" للروائي الإنجليزي دانيال ديفو(1660-1731) تدور كلها حول عالم الحس، ولا تلتفت إطلاقا إلى الـ ما وراء.
حيث إن كروزو لم يشغل نفسه في عزلته إلا بصناعة طاولة خشب والأكل والنوم, أي انحصرت أشواقه وهواجسه في الاهتمام بعالم المادة فقط.
بينما قصة "حي بن يقظان " يشغلها هاجس البحث عن الحقيقة. فانطلاقا من تأمل فكرة الموت يبدأ السؤال الوجودي عند بطل القصة حي، فينشغل بمعنى الروح، ويخلص بعد سلسلة من التأملات إلى وجود الله الخالق.
يمكن في سياق المقارنة بين هذين القصتين استنتاج التمايز بين العقلين الغربي والشرقي، عقل يغوص في المادة ويغرق فيها فينسى ذاته وينسى سؤال الكينونة؛ وعقل يتشوف إلى الـ ما وراء وينزع نحو تأمله.
لكن ثمة أمرا لم يقف عنده الأستاذ مالك بن نبي، أمر يحسن أن نبرزه هنا تعميقا لدلالة هذا التمايز. وهو أن ديفو –هذا الرجل الذي جاء إلى فن السرد من دكان لتجارة الأقمشة والخردوات- لا نراه كتب قصته باستقلال عن حي بن يقظان، بل كما أكد غوتييه سبق لديفو أن قرأ قصة بن طفيل، حيث ترجمت إلى الإنجليزية سنة 1708، أي قبل كتابة ديفو لقصته بإحدى عشرة سنة.
لكن عندما أذكر هذا فليس من أجل اتهام ديفو بالسرقة الأدبية بل قصدي أهم من ذلك، كما لا أريد أن أسلك مسلك غوتييه للتوكيد على اطلاع صاحب قصة كروزو على "حي بن يقظان" وذلك بإبراز ما بينهما من تشابه في الكثير من الأحداث، بل الذي يلفت انتباهي هو المختلف بينهما أكثر من المتشابه، حيث إن ما يهمني هنا هو ما حذفه ديفو لا ما استبقاه أو سرقه أو استعاره بفعل التناص من بن طفيل! لأنني أرى أن ما حذفه هو بالضبط ما ينقص نمط التفكير الغربي، وما أضافه للقصة هو بالضبط ما يميز هذا النمط!
ماذا أخذ ديفو وماذا ترك من قصة "حي بن يقظان"؟!
لقد استبقى ديفو أحداثا كثيرة، لكنها كلها تتميز بكونها أحداثا كمية شيئية. فإذا استثنينا تعلم اللغة كما علم "أسال" حي بن يقظان، نجد عند ديفو تعليم فرايدي لكروزو، فإن ما تبقى كله يتمحور حول الكينونة المادية مثل تدجين بعض الحيوانات وبناء البيت وصنع الملابس والسلاح واكتشاف النار.
أما الذي حذفه ديفو فهو كل تلك الصيرورة التأملية الفلسفية الثرية التي ستخلص بحي بن يقظان إلى الاعتقاد بالله الخالق، أي إن ما حذفه هو سؤال الحقيقة والنزوع إلى الـ ما وراء!
مالك بن نبي وماكس فيبر
"
عندما يعتزل الإنسان وحيدًا ينتابه شعور بالفراغ الكوني, لكن طريقته في ملء هذا الفراغ هي التي تحدد طراز ثقافته وحضارته؛ أي سائر الخصائص الداخلية والخارجية لوظيفته التاريخية
"
وبناء على التحليل السابق لمحددات الرؤية إلى الكائن الإنساني في المنظور الثقافي الغربي، ووقوفنا عند المقارنة التي قام بها المفكر الجزائري مالك بن نبي بين قصة "حي بن يقظان" لابن طفيل، وقصة "روبنسون كروزو" لديفو؛ صح لنا أن ننتهي في سياق المقارنة إلى تقرير اختلاف جوهري في الرؤية إلى الكائن الإنساني ووظيفته في الوجود، حيث تنزع الرؤية الفلسفية للحضارة الإسلامية نحو نظرة كلية كيفية، وتنزع الرؤية الغربية نحو نظرة تحليلية كمية.
وتتجسد هذه النظرة بوضوح في الاختزال المادي لكينونة الإنسان، حيث تؤول به إلى مجرد حيوان اقتصادي!
وهذا ما يشير إليه مالك بن نبي بقوله في سياق تحليله لقصة ديفو "إذ يعتزل الإنسان وحيدًا، ينتابه شعور بالفراغ الكوني. لكن طريقته في ملء هذا الفراغ، هي التي تحدد طراز ثقافته وحضارته؛ أي سائر الخصائص الداخلية والخارجية لوظيفته التاريخية. وهناك أساسًا طريقتان لملء الفراغ، إما أن ينظر المرء حول قدميه أي نحو الأرض، وإما أن يرفع بصره نحو السماء" منتهيا إلى أن "الفكر الغربي يجنح على ما يبدو أساسًا إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم".
واستحضارنا لنموذج كروزو وتأويلنا له على النحو السابق لا يستند فقط إلى قراءة بن نبي، بل يستند أيضا إلى قراءة السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر في كتابه الشهير "الأخلاق البروتستانتية" حيث وجدناه هو أيضا يُؤَوِّلُ شخصية روبنسون كروزو رائيا فيها تجسيدا لنموذج "الإنسان الاقتصادي" ومحددا لنمط الحضارة الرأسمالية.
ونحن عندما نستحضر هذا المعنى نريد أن نذهب أبعد من ذلك، وهو أن هذا النموذج ليس ملمحا من ملامح النمط المجتمعي الصناعي فقط، بل هو محدد من محددات نمط التفكير الغربي ككل.
فالرؤية الكمية إلى العالم لا تبدو فقط في هذا النتاج السردي الروائي ولا في النمط الثقافي والحضاري الغربي الراهن، بل حتى في الخلفية الثقافية الهلينية.
وقد وقفت مدرسة فرانكفورت مليا عند أسطورة أوديسيوس في ملحمة "الأوديسة" كاشفة عن مركزية هذه الرؤية المادية التي سيصطلح عليها هوركايمر وأدورنو بـ "الأداتية".
كما أن هذا النمط في تمثل الذات والوجود نجده يتمظهر في علم الفيزياء مع جاليليو في رؤيته التحليلية الرياضية للكون، وفلسفيا مع ديكارت في تمييزه بين الفكر والامتداد، وتأسيسه للعقل بوصفه قوة للسيطرة على الطبيعة واستغلالها.
كما سيتمظهر مجتمعيا في النمط الليبرالي، كنمط يتقصد تأسيس واقع يعامل الذات الإنسانية بوصفها جسدا.
وبالرجوع إلى الخطاب الحداثي الرأسمالي نلاحظ أن المنظرين للفكرة الرأسمالية سيحرصون على اختزال الدوافع والأشواق والغايات الإنسانية –حتى تلك التي تخرج عن نطاق العلاقة الاقتصادية– إلى رغبات وأشواق جسدية لتؤول إلى محض رغبة اقتصادية!
"
ليس الإنسان مجرد كائن يعيش وجوده بل هو فوق ذلك كائن ينزع نحو فهم الوجود بل حتى على مستوى وجوده الفردي يحرص على أن يجعل له معنى ودلالة ولا يكتفي بمجرد عيشه
"
لكن العقل الفلسفي الغربي عندما يستشعر أحيانا اختلال هذه الأولوية المطلقة التي يعطيها للمنظور الاقتصادي في فهم الإنسان وتحديد حاجاته؛ لأنه يحس أن ثمة دوافع وأشواقا وقيما إنسانية تنفلت من إطار رؤيته المادية القاصرة، دوافع وأشواق تعلو القيمة المادية وتجاوز نطاقها الكسيح المحكوم بمعايير الحساب النفعي، تجده يحاول أن يغض الطرف عنها أو يتحايل لتجاوزها بمنطق التبرير والتسويغ حينا أو بمنطق الاختزال بل والتحريف حينا آخر.
ليس الإنسان مجرد كائن يعيش وجوده بل هو فوق ذلك كائن ينزع نحو فهم الوجود، بل حتى على مستوى وجوده الفردي يحرص على أن يجعل له معنى ودلالة ولا يكتفي بمجرد عيشه.
ومن ثم نقول: إن إنتاج معنى للوجود حاجة محايثة لكينونة الإنسان ولا يمكن تجاهلها. وهذا ما أدركه بعض ناقدي العقلانية الغربية واستشعروا الحاجة إلى اعتباره عند تحليلهم للوضعية الإنسانية.