تتجه مؤسسة البريد التي عرفتها الأجيال السابقة والحالية إلى الإضمحلال بسبب التطورات التكنولوجية المتلاحقة التي شهدها هذا المجال لكن ذلك لا يعني أن المشرفين على مؤسسات البريد في العالم قد استسلموا بعد للمصير البائس الذي يتوقعه الكثيرون.
نحو تحرير قطاع البريد ..قد لا تكون هنالك علاقة سببية مباشرة بين إضراب العاملين في مركز الفرز البريدي في مدينة لوزان (غرب سويسرا) عن العمل للمرة الأولى في تاريخ الكونفدرالية في منتصف شهر نوفمبر من العام 2002، وبين المؤتمر الدولي الذي احتضنته جنيف في نفس الفترة لمناقشة مستقبل الخدمات البريدية في ظل التطورات التكنولوجية الهائلة.
لكن إقدام المشرفين على مؤسسة البريد السويسرية على التلويح بإمكانيةإغلاق الأغلبية الساحقة من مراكز فرز الرسائل والطرود البريدية الثمانية عشرة في البلاد والإبقاء على ثلاثة منها فحسب في ظرف لا يتجاوز خمسة أعوام وهو ما سيعني مبدئيا إحالة ثلاثة آلاف موظف على الأقل على البطالة، أعطى مؤشرا ساطعا على خطورة الأوضاع في هذا الميدان.
ففي عصر التواصل الكوني السريع والمتعدد الوسائط تغيرت الكثير من أنماط العيش وانهارت العديد من المسلمات. وأدت التطورات التكنولوجية الهائلة في مجال الإتصالات مثلا إلى دفع المشرفين على مؤسسات البريد في العالم إلى التفكير في كيفية التأقلم مع المتطلبات الجديدة ورسم استراتيجيات جديدة للمستقبل.
ومما يزيد الأمور تعقيدا، اضطرار مؤسسات البريد التابعة في معظم الأحيان للقطاع العام وخاصة في البلدان السائرة في طريق النمو إلى مواجهة تحديات إضافية ناجمة عن سياسات التحرير المتسارعة للخدمات عموما وللقطاع البريدي بوجه خاص.
هذه الأوضاع الجديدة تترجم أيضا في أرقام وإحصائيات تنشرها دوريا مراكز البحوث المتخصصة في سويسرا وخارجها. فعلى سبيل المثال، تشير معظم الدراسات إلى أن سوق الإتصالات المستفيد من تطور شبكة الإنترنت ونمو البريد الإلكتروني يتطور بشكل أسرع بكثير من سوق البريد التقليدي. وهو ما سيؤدي حتما إلى تراجع حجم الرسائل والطرود المرسلة بالبريد العادي وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا.
هذا التراجع لن يؤدي بالطبع إلى وفاة مؤسسة البريد أو الإستغناء عن خدمات سُـعاتها وموظفيها، لكنه أحدث منذ الآن انقلابا خطيرا في أسلوب تفكير وتخطيط المشرفين على حظوظها الذين استوعبوا حجم التهديدات المستقبلية.
الحرفاء الكبار .. والبقية؟
فعلى سبيل المثال، تفيد دراسة أعدها مركز IHA السويسري للأبحاث أن حجم البريد المستعجل سينهار بنسبة 23% بحلول عام 2010 بسبب لجوء المؤسسات التجارية والصناعية والإقتصادية بشكل متزايد إلى خدمات البريد الإلكتروني.
كما أن الشركات ستفضل في عام 2007 التواصل مع الحرفاء والخواص عبر البريد الإلكتروني في 49% من الحالات (مقابل 32% بالبريد العادي). أما الظاهرة الأخطر – طبقا لهذه الدراسة – فسوف تتمثل في تحول 61% من المراسلات التي تتم بين المؤسسات والشركات إلى البريد الإلكتروني مقابل 15% فقط في الوقت الحاضر.
وتكمن خطورة هذا الرقم في أن مؤسسة البريد السويسرية (وهي ليست استثناء في هذا المجال) تحقق 85% من إجمالي رقم معاملاتها السنوي في مجال الرسائل المتبادلة بين الشركات والمؤسسات الإقتصادية!!
لذلك فان تحول الأفراد العاديين من تبادل الرسائل التقليدية عبر البريد العادي إلى البريد الألكتروني أو الرسائل القصيرة (SMS) لن يكون مؤثرا بشكل كبير على توازن مداخيل مؤسسة البريد السويسرية نظرا لأن حجم التطور المرتقب في هذا المجال لن يتجاوز نسبة 13% (مقابل 7% حاليا) بحلول عام 2007.
وعلى الرغم من ترديد المسؤولين عن البريد عدم اعتزامهم "نسيان الحريف القاعدي" على حد تعبير السيد كلود دوفوندو المسؤول عن التخطيط الإستراتيجي في الإتحاد البريدي العالمي، إلا أن المنافسة المحتدمة بين المتدخلين في هذا القطاع الذي لحقته موجه التحرير التي لا تتوقف، تدفعهم دفعا إلى الإستجابة أولا (وأساسا) إلى طلبات وشروط الحرفاء المهمين. أي الشركات الكبرى التي تمثل معاملاتها 81% من رقم المعاملات السنوي لمؤسسة البريد في سويسرا طبقا للتصريحات الأخيرة الصادرة عن رئيس مجلس إدارتها أنطون مينث.
وهنا يبرز التحدي الخطير بوجه مؤسسات البريد العاملة في سويسرا وفي شتى أنحاء العالم، والمتمثل في التوفيق بين احتياجات الصنفين من الحرفاء. ولعل مكمن الخطر يتمثل في أن قوانين السوق التي لا ترحم ستؤدي – حتما يقول البعض – إلى إلحاق الضرر بمصالح الحرفاء الأقل إثارة للإهتمام والمردودية الإقتصادية.
وعلى الرغم من اعتراض ومخاوف اليسار والنقابات عموما على التوجهات الجديدة، إلا أن سامويل كونيغ المتحدث باسم نقابة الإتصالات في سويسرا يعترف بأن مؤسسة البريد مضطرة الآن للتفكير بعقلية السوق لكنه يعبر عن الأمل في أن تستمر في "خدمة جميع مناطق سويسرا بنفس الشكل حتى ولو اقتضى الأمر اللجوء إلى مساعدة الدولة" حسب قوله.
حلول مبتكرة
على صعيد آخر، بدأت مؤسسات البريد في بعض البلدان الغربية مثل الولايات المتحدة وفرنسا في خوض بعض التجارب الرامية إلى ضمان مستقبل أفضل لها.
ويبدو أن الخلاص سيتمثل في المزج بين ما يوفره البريد الأليكتروني من سرعة وبين التقاليد العريقة للخدمات البريدية التقليدية. فقد بدأ العمل قبل فترة في الولايات المتحدة مثلا بنظام مبتكر يحمل اسم "البريد الهجين أو المهجن".
هذا النظام بسيط إلى أبعد حد حيث يكفي أن يرقن الشخص رسالته على حاسوبه الشخصي ثم يرسلها عبر البريد الألكتروني إلى مكتب البريد المجاور له. ومن هناك تحول فورا إلى أقرب مكتب بريد لعنوان المرسل إليه حيث تتم طباعتها وإيداعها في صندوق بريده الشخصي!
وقد اقتصرت هذه الخدمة في مرحلة أولى على الشركات والمؤسسات التجارية لكن نجاحها في بلد شاسع مثل الولايات المتحدة أقنع إدارة البريد بتمكين الجميع منها في الفترة الأخيرة.
وفيما لا زالت التجربة في خطواتها الأولى في فرنسا، يبدو أن مملكة البوتان ستتحول إلى أول بلد في العالم يعتمد "البريد المهجن" لجميع سكانه الذي لا يتجاوز عددهم سبع مائة ألأف شخص.
حيث يساعد الإتحاد البريدي العالمي والإتحاد الدولي للإتصالات مؤسسة البريد المحلية في خطة ترمي لمنح كل ساكن في المملكة عنوانا ألكترونيا صالحا للإستعمال في مكتب بريد محدد (يكون الأقرب إلى مقر إقامته) وهو ما سيساعد على تسريع عملية إيصال الرسائل إلى أصحابها بالإعتماد على الأسلوب الجديد.
تحالف من أجل البقاء
ومن الأفكار المتداولة في هذا المجال، اعتزام مؤسسات البريد في البلدان المتقدمة استعمال البريد الألكتروني في مجال الخدمات التسويقية. فقد أقدمت مؤسسة البريد الفرنسية – التي تمنح كل ساكن عنوانا بريديا أليكترونيا مجانيا – على إنشاء شركة متخصصة (Mediapost) في تسويق خدمة جديدة لفائدة الشركات الراغبة في تنظيم حملات إشهارية عبر البريد الألكتروني من خلال قاعدة البيانات الضخمة التي تمتلكها والتي تمزج بين العناوين الشخصية العادية والعناوين البريدية الأليكترونية.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن يرسل متجر كبير برسالة إشهارية أسبوعية أو دورية عبر البريد الألكتروني إلى جميع سكان المنطقة القريبة منه مع ما يمثله ذلك من ربح للوقت وتوفير في تكاليف الطباعة والتوزيع.
ومع مرور الوقت، يحاول المشرفون على مؤسسات البريد في سويسرا والعالم البحث عن خدمات جديدة ومبتكرة يمكن أن تستقطب المزيد من الحرفاء وتساعد على ضمان بقاء نسبة محترمة من مواطن العمل في قطاع تحول في ظرف وجيز إلى ضحية كبرى للتطور التكنولوجي في مجال الإتصالات. وفيما تبدو المهمة شاقة في بلدان الشمال، فان العملية تحولت إلى معضلة مؤرقة في أعلبية بلدان الجنوب المتخلفة تكنولوجيا......