تعودنا عند تناولنا لأي قضية ما أن نتعامل معها وفق مستويين, أسميتهما مستوى الواقع و مستوى المفروض. مستوى الواقع هو القضية كما نجدها على الأرض, كما نعايشها و نراها, و كما نتناولها في مجالسنا الخاصة اليومية, أو في لقائاتنا غير الرسمية. و يكون هذا المستوى صريحا, فيتناول المواضيع الحساسة, و الأمور الدقيقة, و لا يفترض أشياء غير موجودة في القضية. و يكون أكثر قدرة على تمييز الأشياء كما هي دون انخداع بمسمياتها, أي أنه لا يعترف إلا بالشيء الموجود فعليا لا الموجود اسميا. أما بالنسبة لمستوى المفروض, فهو المستوى الذي نتعامل فيه مع نفس القضية و لكن في المنابر و المحافل الرسمية. و هو المستوى الذي نلاحظه كثيرا في مقالاتنا, و في خطاباتنا, و في ندواتنا و لقائاتنا الرسمية. وهذا المستوى يكون أقل صراحة, و أكثر تجنبا لطرح القضايا الحساسة و الأسئلة الصعبة على الذات, و غالبا ما يناقش القضية بشكل نظري مستندا على أشياء افتراضية غير موجود ة في الواقع أو موجودة و لكنها غير فاعلة. هذا المستوى كثير الانشغال بالمفروض عن الواقع, و بالأسماء عن المسميات, و بأشباه الحقائق عن الحقائق, و بالظواهر عن البواطن, وبما يجب أن يكون عما هو كائن.
ولا يظنن أحد بأنني حينما أتكلم عن هذين المستويين (المفروض و الواقع) أخلط بينهما و بين مفهومي التجريد و التشخيص. لأنه من الممكن التعامل مع القضية بشكل تجريدي يسمو فوق التفاصيل ضمن مستوى المفروض أو مستوى الواقع, كما أنه من الممكن التعامل مع القضية بشكل تشخيصي يغوص في التفاصيل ضمن مستوى المفروض أو مستوى الواقع.
إنني أجزم أننا لسنا الوحيدين في العالم الذين يوجد لديهم تباينا في الطرح, فمستوى المفروض في أي قضية هو ذاك المثالي الذي تطمح المجتمعات إلى تحقيقه, ومستوى الواقع هو ما تمارسه و تعاينه و تكابده تلك المجتمعات من خطوات وملاحظات وعقبات داخل هذه القضية. ولكنني أيضا أزعم بأننا ربما نكون الوحيدين الذين نعاني من فصلٍ تام بين ذينك المستويين, و فصام حادٍ بينهما في طرحنا الثقافي. وحتى نتصور هذين المستويين و العلاقة بينهما, يمكننا أن نتخيل حلقتين, وظيفة إحداهما (المفروض) أن تجر الأخرى (الواقع) إلى الأمام. فإذا حافظنا على التداخل بين الحلقتين , فقدمنا رؤية متقدمة و لكنها لا تتجاهل مشاكل الواقع ,استطعنا أن نسحب حلقة الواقع إلى الأمام. أما إذا تباعدت الحلقتان و انعدم التداخل بينهما- كما هي الحال عندنا- فإن سحب حلقة الواقع إلى الأمام يصبح مستحيلا, وفي هذا الوضع يصبح الطرح ترفا أكاديميا, أو سفسطة بيزنطية,لا يعني الناس من قريب أو بعيد, نهرول به ونلهث- أي الطرح- في حلقة المفروض بينما نبقى في أماكننا في حلقة الواقع. و أما إذا تداخلت الحلقتان بدرجة كبيرة فتطابقتا, و كانت حلقة المفروض فوق حلقة الواقع تماما -كما هي الحال لدينا أيضا في بعض الأحيان وبعض القضايا- فنظن أننا بلغنا غاية المنى ومنتهى الآمال, و أنه ما عاد بالإمكان أفضل مما كان, فعندها يكون الدوران في حلقة مفرغة مصيرنا المحتوم, واجترار الواقع كما هو واجبنا اليومي.
لماذا هذا الفصام الحاد في الطرح ؟ لذلك أسباب عديدة , وعلل كثيرة , ويأتي في رأس القائمة: طبيعة المواقف الرسمية و ما يكتنفها من حساسية, حيث المجال المتاح للتراجع عن الطرح محدود, و حيث يكون الحذر من إغضاب طرف من الأطراف سيد الموقف. وبعد ذلك تأتي تلك الرغبة في دواخلنا التي تستحثنا القفز على مشاكل الواقع, وذلك الميل في نفوسنا الذي يدفعنا إلى الهروب إلى الأمام و تكديس همومنا وراءنا. هذه أمور عامة يشترك فيها الجميع, تأتي بعدها أمور أكثر شخصية. منها أن يتجنب الطارح - عجزا أو تكاسلا- تفكيك الواقع و مواجهته, فيتجه إلى مستوى المفروض ليستعرض لياقته الثقافية, فهناك تكون المفاصل أكثر مرونة, و العضلات أكثر طواعية. و منها أن يكون الطارح مقلدا فيظن أن الطرح لابد أن يتخذ هذا الشكل, وهذا أوضح ما يكون في الناشئة من الكتاب.
وهذا الفصام في الطرح يؤدي بدوره إلى فصام من نوع آخر, فصام بين الملقي(كاتبا, خطيبا, إعلاميا...) و بين المتلقي(قارئا, مستمعا, مشاهدا...), وهكذا يمكننا أن نفهم لماذا نشعر أحيانا بأن الملقي يقف في برج عاجي ,أ و بأن الملقي يصف المجتمع من الخارج بينما نحن نراه من الداخل, و أن الصورة التي يقدمها لنا الملقون لا تعكس الواقع كما هو, بل تقدم صورة مشوهة وربما مزورة عنه. و الفصام الثاني يضعف من تفاعل المتلقي مع الملقي, و يضعف من استعداده لقبول ماقدّمه الملقي و تبني رسالته..
رد مع اقتباس
