بسم الله الرحمن الرحيم
حدّث سهم بن كنانة قال:
لم أعد أتذكر عدد المرات, التي مني فيها سوق المال بانهيارات, فقد حدث انهيار أيار* الذي شل الأذهان, ثم شباط فاجعة الزمان, ثم مصيبة رمضان, ثم كارثة كيان, وربما تتوالى الكوارث, فالمرء همام وحارث, وأسواق المال عندما تصاب, لا يقول بسرعة شفائها إلا نصاب, فدورة الشفاء تطول, وجرعات العلاج المسكن لا تحقق المأمول, وربما تمر الأسواق بفترة جزر ومد, وانخفاض ورد, لكن الإيقاع في مجمله هبوط, حتى يأذن الله بانحسار الضغوط, وزوال أسباب السقوط.
قال سهم بن كنانة: عندما أصيب سوق المال, في شهر شباط المحطم للآمال, أصبحت فقيرا مهلهل الأسمال, فاشلا في إدارة الأعمال, بل مر علي وقت حسدت فيه الزبال, على لقمة عيش في راحة بال. ثم بعد توالي الانهيارات, وتتابع الغارات, شرعت ألوم نفسي على البقاء في السوق, وأذكرها بفضل الخروج والمروق, وتساءلت: أليس المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين, والعاقل لا يُسقط في ساعة أكثر من جرتين, فلماذا لدغت من الجحر نفسه عشر مرات, ولماذا هوت من يديّ جرات وجرات؟ ألم تحن لحظة الفراق, وساعة الطلاق, أم أني ما زلت أمني نفسي بالأمل, فأصبر على النوائب صبر الجمل؟ لماذا أعلل النفس بالآمال أرقبها, وهوامير السوق فاغرة أفواهها وتطلبها؟ ألم يقل أبو الطيب:
ومن تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبب؟
ألم يلهب حماستنا بقوله:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام؟
ألم يردد في سمع الزمان نشيده:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم؟
إذن فأنت يا سهم من أصحاب الهمم العالية, والنفوس السامية, والدماء الحامية. لكن ماذا تنفعني هذه الصفات, وهل يرجع ما ضاع تزويق الألفاظ وصف الكلمات. آه.. آه منك يا شباط, يا من أصبتني بالحزن والإحباط, وآه منك يا اكتتاب كيان, ما كنتَ والله ختام فضل وإحسان. أو كلما حصل اكتتاب, استغل للضغط والإرهاب؟ وماذا نصنع في سوق تأخذ منك أكثر مما تعطيك, وتمتص دمك وترميك, وتتلف أعصابك وتفريك؟ هل نسلم لها الديار, أم نمعن في الفرار, ونطلقها كما غدتْ مطلقة نوار؟
قال سهم بن كنانة: كانت هذه الهواجس تدور في ذهني, وأنا سائر إلى شيخي رافع بن جني. وهو شيخ الأسهم في عصره, والخبير الجهبذ في مصره, وقد طبقت سمعته الآفاق, حتى تحدثت بحدسه الشام والعراق, فعزمت على تجديد العهد به, والتزود من علمه وأدبه. عندما رآني هتف مرحبا: ابن كنانة, الذي أضاء بالنبوغ زمانه؟ قلت: رحمك الله, لست إلا مفلسا في سوق المال, سبحان الغني ذي الكمال.
قال سهم بن كنانة: وأخذني ابن جني إلى مجلسه الخاص, وفيه حاسوب محمول ومئات الأقراص, وأجلسني ثمة وقال: أتريد سؤالي عن السوق؟ قات نعم, فدتك أسهمي كلها. قال مبتسما: سيصلحها الله بعد زمن, وسيباركها كما بارك الشام واليمن. قلت: سبحان الله! وكيف علمت بالأمر, لا حرمك الله في الجنة من شرب الخمر! ضحك ابن جني قائلا: والتمر.. لا تنس التمر! قلت: هات ما عندك يا ابن جني, فقد اصطكت ركبتي وأوجعني بطني. قال: أتعرف ما الذي يجعل الناس يخسرون, ويدخلون السوق وينكسرون؟ قلت: لا. قال: العجلة.. العجلة, وإذا كان الإنسان خلق من عجل, فإن السعودي أحرص الناس على بلوغ الأجل, يبيع أسهمه بثمن بخس, ويرفسها لحظات النزول أشد الرفس, ولو يصبر على محفظته, لأغناه الله من سعته, وإن مما يخسف بالمال, الخروج والدخول بعشوائية وارتجال, وهذا ما يجعل الكاسب خسران, والحليم حيران.
قال سهم بن كنانة: وتأملت ما قاله ابن جني, فشعرت كأنما يتكلم عني, إذ لو احتفظتُ بأسهمي مطلع رمضان, ولم أتلاعب بها تلاعب الصبيان, لكنت الآن أحسن حالا, وأطيب مآلا, لكن كل أسهمي الآن, لا تعدل نصفها في رمضان, والسبب الاستعجال في الخروج, والمضاربة بشكل ممجوج. وبينا أنا غارق في التفكير, مشددا على نفسي النكير, صاح ابن جني قائلا: ماذا تنوي يا ابن كنانة؟ قلت: لو كان لدي مال وفير, لاتجهت إلى العقار ولو من باب التوفير. ضحك الرجل وقال: ومن قال إن النشاط العقاري, هو أفضل خيار استثماري؟ أرى أن تنتظر ارتفاع سهامك, حتى تحقق بعض أحلامك.
قال سهم بن كنانة: وخرجت من عند ابن جني وأنا أقول: هذا السوق بحر بعيد القاع, لا يغوص فيه إلا طويل الباع, ولأني لا أتقن فن العوم, فلن أغامر بعد اليوم!
* أيار (مايو), وشباط (فبراير).
منقول