؟
.
.
.
.
في حفلة صغيرة أقيمت بمناسبة صدور كتاب يروي سيرة حياته، تعاقب المدعوون، وهم زملاء دراسة وأصدقاء قدامى وبعض الأقارب، إضافة إلى ثلاثة من أبنائه، على إلقاء كلمات قصيرة عن المحتفى به، بينما جلس هو مرتدياً بنطاله الفضفاض واضعاً يده على فمه، محاولاً إخفاء ابتسامات الخجل مع توالي الكلمات، أحد المتحدثين قال بالطبع لم يرتدِ ربطة عنق الليلة، وآخر لفت انتباه الحضور إلى ساعته الرخيصة الثمن، وإلى كيس البلاستيك الذي يستخدمه كحقيبة ديبلوماسية.
لم يكن هناك ما هو خارج عن المألوف في هذا الاجتماع سوى أمر واحد، هو أن المحتفى به هو البليونير الأميركي تشك فيني، وإذا كنت لم تسمع به من قبل فهذه ليست مفاجأة، فلا أحد يعرفه، لأنه بقي بعيداً عن الأضواء طيلة حياته يجمع الأموال وينفقها على الأعمال الخيرية في جو من الكتمان والسرية الشديدة، أنشأ قبل سنوات طويلة مؤسسة خيرية سماها «أتلانتيك فيلاونتروبيز» - مبرة الأطلسي- وأنفقت هذه المؤسسة مئات الملايين على الجامعات والمستشفيات في شتى أنحاء العالم، ولم يكن يسمح بأن يذكر اسم المؤسسة أو علاقته بها، لم يكن مسموحاً للعاملين بالمؤسسة بأخبار عائلاتهم أين يعملون. وكان يشترط على المستفيدين من منح المؤسسة التوقيع على إقرار عدم الإفصاح عن المصدر وإلا حرموا منها مستقبلاً!
يقول فيني، في مقابلة نادرة أجريت في شقة ابنته في نيويورك، إنه وافق على إصدار الكتاب لأنه الآن بدأ مهمة عامة جديدة، وهي إقناع أثرياء العالم بتدارك الوقت وإنفاق جزء من ثرواتهم وهم مازالوا أحياء، يقول إن كل الصناديق الخيرية التي تنشأ بعد وفاة المتبرع لا تنفق سنوياً سوى «5» في المائة من المبلغ، وهو الحد الأدنى المسموح به قانونياً... بدأ فيني بتوجيه جزء كبير من ثروته إلى أعمال وأنشطة خيرية قبل 23 عاماً، أي عندما كان في 53 من عمره، أنفق أربعة بلايين دولار، وبقي أربعة بلايين أخرى بمعدل 400 مليون دولار سنوياً، يقول إن هناك الكثير من المآسي في هذا العالم لا تساعد في تبرير أي تأخير في مد يد العون والمساعدة، ويضيف مازحاً لن أرحل قبل أن أنفق آخر دولار.
الأمر اللافت في مسيرة هذا الرجل هو أنه بنى ثروته الهائلة بكفاح مرير وسط منافسة شرسة، ولا يخجل من ذكر أنه كان على الدوام يقف على حافة القانون بحثاً عن مصالحه، لذلك كان يسعى إلى البحث عن الطرق المشروعة للتقليل من دفع الضرائب وتفادي الذراع الطويلة لإدارة جباية الضرائب، بعد تخرجه في الجامعة خدم في الجيش الأميركي في اليابان أثناء الحرب الكورية، وانتقل إلى أوروبا، إذ التقى زميله السابق في جامعة كورنيل روبرت ميلر الذي أصبح شريكه، وبدأ في فتح محال في المناطق الحرة «ديوتي فري» التي تحولت بمرور الوقت إلى إمبراطورية مالية واسعة، ويقول كانت السرية هي مفتاح النجاح في هذا العمل، فالسائح الذي يتسوق في المكسيك بإمكانه الإطلاع على كاتلوج وشراء بالطو كشميري من هولندا، وإرساله إلى منزله في الولايات المتحدة، واعتباره أمتعة متخلفة وبالتالي تفادي دفع أي ضرائب.
يقول: إذا كنت تملك آلة لطبع النقود فليس من مصلحتك إخبار الجميع بذلك، لأنك تدعو الآخرين لتقليدك، لذلك السرية كانت كفيلة بحماية إمبراطوريته ليس فقط من جامعي الضرائب ولكن من المنافسة.
وبسبب قيامه بإدارة أعماله من مكاتب رئيسة في مناطق معفاة من الضرائب (أوف شور) لم يكن أحد يعلم أن دخله في عام 1988كان أكبر من دخل روبرت مرودخ وديفيد روكفلر، أو حتى دونالد ترامب، وعلى رغم هذه الثروة الهائلة إلا أنه لم يتغير على الإطلاق، فظل يتصرف وكأن كل ذلك لم يحدث له، وعلى رغم أنه صنع ثروته من بيع أرقى أنواع الماركات العالمية إلا أنه لا يجد نفسه في هذا العالم، ويروى عنه أنه قابل رئيس وزراء إيرلندا وهو يرتدي نظارات طبية مكسورة استخدم دبوس أوراق لتثبيتها، وأغرب من ذلك فهو لا يملك سيارة ويفضل استخدام الحافلة على التاكسي، وكان يسافر بالدرجة السياحية حتى بلغ 75 وبسبب آلام الركبة إضطر إلى ركوب الدرجة الأولى!
يقول ابن أخيه إن عمي أعطى والدي 50 ألف دولار من أجل تعليمي، ولكن عندما أذهب معه للمطعم لتناول فنجان من القهوة فهو يدقق كثيراً في فاتورة الحساب، بالنسبة للمطاعم فهو لا يميل للمطاعم الفاخرة، يقول تستطيع إنفاق مئة دولار على وجبة في مطعم فاخر، ولكني أجد متعة أكبر في تناول وجبة بـ25 دولاراً.
على رغم أن أبويه ولدا في أميركا إلا أنه ظل يشعر بالإنتماء إلى أرض أجداده إيرلندا، إذ أنفق بسخاء على مشاريع تنموية هناك وبصورة سرية بعيداً عن الأضواء، وعندما كانت إيرلندا ترزح تحت مشكلات اجتماعية واقتصادية جمة، من بطالة مرتفعة وعنف طائفي، قدم تبرعاً بمبلغ 125 مليون دولار لمركز أبحاث جامعي، واشترط أن تدفع الحكومة الإيرلندية مبلغاً مساوياً لهذا المبلغ، وهذا يعني 20 ضعف ما كانت تصرفه الحكومة من قبل.
يفتح فيني كتاب بيل كلينتون الجديد «العطاء» ويقرأ من فصل كم يجب أن تعطي ولماذا؟ ويقرأ عن إحصاءات ضرائب الدخل الأميركية، إنه لو تبرع الـ14400 الأكثر دخلاً في أميركا بثلث إيراداتهم السنوية لأصبح لدينا 61 بليون دولار سنوياً، وهذا المبلغ الهائل سيصنع الكثير من الفارق في هذا العالم، ويتساءل لماذا هذا لا يحدث؟... يجيب فيني إنه أمر طبيعي أن يحرص الإنسان على جمع الأموال، وهناك جاذبية كبيرة لأن يعرف الإنسان بأنه ثري. يقول ليس من شأني في هذه الحياة إخبار الآخرين بما يجب عليهم أن يفعلوا ولكني مقتنع أنه إذا أنفق الإنسان ودعم أشياء يعتقد بأنها في المصلحة العامة فسيجد متعة ورضاء كبيرين، ويقول إن إحدى جمعياته المفضلة هي عملية الابتسامة، وهي جمعية ترعى جراحين للقيام بعمليات تجميل الفك في الدول الفقيرة، ويضيف لا أنسى منظر طفلة صغيرة كانت تجلس في غرفة الانتظار واضعة يدها على فمها خجلاً، وبعد إجراء العملية أشرق وجهها بإبتسامة فرح رائعة، شعرت معها أن جزءاً سيئاً وقبيحاً مني قد زال وحل بديلاً عنه شيء جميل ومشرق.
في مناسبة أخرى تقدم له رجل في أحد المطاعم وقال له هل تعلم أنك علمتني هذه المهنة، فقد حظيت بإحدى منحك الدراسية، والآن أنا المدير العام لسلسلة مطاعم كبيرة، الفكرة البسيطة التي يؤمن بها فيني ونفذها بالفعل وبدأ الآن مهمة الترويج لها هي أنه على رغم الجاذبية الكبيرة لجمع الأموال والسعادة المرتبطة بالنجاح بهذه المهمة، إلا أن تكوين الثروة ليس الهدف النائي ولا يجب التوقف عنده، الثراء هو شهادة النجاح الأكثر صدقية حول العالم وعندما يصبح الإنسان ثرياً فهذا دليل نجاح وقوة، والسؤال الذي يطرحه فيني عندما تنال هذه الشهادة ماذا ستصنع بها، وما خطتك لاستثمارها الاستثمار الأمثل قبل أن ترحل عن هذه الحياة، عندما تحلم بامتلاك سيارة وتوظف كل طاقاتك لتحقيق هذا الحلم، من العبث عندما تستطيع امتلاك سيارة أن تكتفي بإيقافها أمام منزلك والتفاخر بأنك نجحت في تحقيق حلمك، إذا لم تستطع الاستفادة منها فلديك مشكلة في اختيار الأهداف. وهنا نلاحظ مفارقة جديرة بالتأمل وهي أن طريقته في التعامل مع الثروة تعكس الادراك الحقيقي أنه بالفعل ثري، وأن لديه القدرة على صنع الفرق وإحداث التغيير على أرض الواقع، بينما طريقة الآخرين في مواصلة مراكمة الثرواتحتى يرحلوا عن هذه الحياة لا تعكس سوى أمر واحد أنهم لم يستطيعوا إستيعاب أنهم أصبحوا أغنياء ولم يتحرروا بعد من الشعور بالخوف. عندما تصبح ثرياً يفترض أن تتصرف وكأنك ثري وتستغل القوة التي يمنحها لك هذا الثراء في وضع بصمة مؤثرة لك على حياة الآخرين من حولك. يقول تشك فيني إن هناك خيطاً رفيعاً يفصل بين السلامة العقلية والجانب الأخر، قد يرى كثيرون أن التبرع بالمال هو ضرب من الجنون، بالنسبة لي هو عين الصواب، لأن حكمتي المفضلة هي لا تنسى انه ليس هناك جيوب في الكفن.
منقولة