د. سعيد بن علي العضاضي - - 02/08/1429هـ
تحدث البعض عن تخصيص التعليم في بلادنا، منهم من تطرق إلى النواحي الاقتصادية ومنهم من بيّن دور التخصيص في رفع جودة التعليم، إلا أن هناك ثغرة لم يتم التركيز عليها بعمق وهي علاقة منظمة التجارة العالمية بتخصيص الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم. وهنا سنلقي الضوء على تجارب الدول في مجال التخصيص مع توضح اليد الخفية التي تستولي على مقدرات الشعوب بحجة التخصيص.
بدأت منظمة التجارة العالمية بعدة تكتلات كان من أبرزها (النافتا) NAFDA تلتها عدة اتحادات في أمريكا اللاتينية والشرق الأقصى حتى وصل الوضع إلى اتفاقية (القات) GATT التي أقيم على أنقاضها منظمة التجارة العالمية WTO.
ورغم ما يروج للمنظمة من أنها الخيار الحتمي والمصيري للدول النامية، إلا أنه يكتنفها كثير من الغموض. وتعددت الآراء حول المنظمة ونياتها، فالبعض يرى أنها هيئة دولية ظاهرها اقتصادي وباطنها سياسي استعماري، وظيفتها الأساسية حماية مصالح الشركات متعددة الجنسيات. يرى هؤلاء أن الهدف البعيد للمنظمة يتمثل في محاربة الدولة والهوية عن طريق تحويل الدول الأعضاء إلى مجرد شرطي وراع لمصالح الشركات متعددة الجنسيات. تقوم المنظمة بإضعاف وتقليم أظفار الدول التي تنادي بالرفاهية الاجتماعية كما حدث في المكسيك وكما يحدث الآن في بعض دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا. يجزم بعض الاقتصاديين أن الهدف المبطن لمنظمة التجارة العالمية هو استعمار واستغلال موارد الأمم, الذي نادى به آدم سميث في كتابه "ثروة الأمم" عام 1776، عن طريق ترويجها عدة أكاذيب تم فضحها من قبل أستاذي الاقتصاد الألمانيين بوكسبرغر وكليمنتا.
وقد اكتشفت هذه الحقيقة في نهاية القرن الماضي عندما بدأت الحكومة البريطانية بالتخلي التدريجي عن خدماتها الاجتماعية بحجة السماح للقطاع الخاص بالاستثمار فيها لتقديمها بشكل أسرع وأجود. فبدأت الحكومة البريطانية تصطنع عجزها عن أداء تلك الخدمات كي تثبت للناس أنها غير قادرة على إدارتها. إلا أن هذه المكيدة لم تنطل على المواطن البريطاني الذي يرفل بالخدمات الاجتماعية الراقية والمجانية بعد ما لاحظ وفود الشركات الأجنبية للاستثمار في الصحة والتعليم تحت مظلة منظمة التجارة العالمية. كما لاحظ زيادة تدريجية في الأسعار وانخفاضا تدريجيا للأجور، فثارت المظاهرات وعدد من الإضرابات العمالية ودعوى من النقابات للعودة إلى حكم الدولة الاجتماعي فأوقفت عملية التخصيص وعادت الدولة تقدم الخدمات الاجتماعية للمواطنين إلا أن الإنفاق لم يعد كالسابق وبقي جزء منه تحت سيطرة القطاع الخاص.
وهناك حركة مماثلة واجهت المواطن الألماني عندما بدأت الحكومة الألمانية تتخلى عن دعم بعض المرافق الحيوية وتسليمها للشركات الأجنبية، بحكم الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية, إلا أن المواطن الألماني واجه هذا بالتصدي المبكر عندما رأى نتائج التجربة البريطانية, وفي فرنسا حصل أول تمرد ضد العولمة عام 1995.
وقامت شركات الخدمات وشركات التمويل والتأمين بالاحتكار والابتزاز والمماطلة في عدد من الدول النامية. فهي تصول وتجول دون رادع وتقوم بنهب أموال الناس وتبقي الجهات الحكومية في وضع المتفرج. فعلى سبيل المثال: شركات التأمين في بعض دول إفريقيا وأوروبا الشرقية تنتزع من المواطن المال انتزاعا بدعم من القانون, وهذا القانون لا يستطيع أن يعيد للمواطن حقوقه عند تعويض الأضرار. كما أن الشركات لا تعترف بالتقارير الحكومية عند تقدير الأضرار بل تقدر الوضع بالطريقة التي تخدم مصالحها بالتفاوض المباشرة مع المتضرر حتى يذعن إلى مطالبها ثم ترمي له بالفتات. إن شركات التمويل والتأمين في هذه الدول ترى نفسها فوق القانون لدرجة أن العامل في التشيك والهند يحصل على أقل من الحد الأدنى للأجور ويعمل أعلى من ساعات العمل المحددة له في العقد ولا تستطيع الحكومة أن تحرك ساكنا, أهذه هي الحياة الكريمة التي وعدت بها منظمة التجارة العالمية؟
وبناء على ما سبق أما زال بعضنا ينادي بتخصيص التعليم في بلادنا بحجة تفعيل وتقديم الخدمة بشكل جيد؟ نعلم جميعا أن قطاع التعليم يتخبط ويحتاج إلى إصلاح ولكن الحل ليس في التخصيص بل في تسليم هذا القطاع الحيوي للكفاءات والخبرات الوطنية المؤهلة, وأعيد هنا كلمة "مؤهلة" تحت إشراف وسيطرة الدولة، ويمكن الاستعانة ببيوت خبرة دولية إذا لزم الأمر كجهات استشارية فقط.
والبعض يطرح تجربة "الاتصالات السعودية" مثلا يحتذى للمناداة بالتخصيص. ونقول لهؤلاء إن المهمة الوحيدة التي عملتها شركة الاتصالات هي تطبيق التوصيات والآليات التي قدمت لوزارة البرق والبريد والهاتف آنذاك فأهملتها الوزارة ليس عجزاً بل رغبة في التخلص من هذا الإرث وتسليمه للقطاع الخاص. كما أن تخصيص قطاع الاتصالات مر بمراحل تهيئة وترويض سنناقشها في مقال آخر.
نأمل من الجهات المعنية ومن المجالس التشريعية والاستشارية ألا تنادي بالتخصيص كخيار وحيد لإصلاح التعليم وعدم تسليم هذا القطاع الحيوي للقطاع الخاص، فطوبي لمن اتعظ بغيره، وللحديث بقية.