[align=center]تعرفت إلى إنسان يهوى الكتابة وقد جعل منها تعبيراً لإحساسه ومشاعره نحو قومه ووطنه. فقد استغنى عن الكلام الفارغ وأغنى أذنه عن دويها بما لا يفيد قائله ولا سامعه إلا بما يعود بالبكاء والحزن عليهما وليس ثمة طائل تحته. فهذا الكلام يرجع إلى الماضي البعيد البعيد وليس هو من عبر التاريخ؛ أو يعود إلى المستقبل البعيد البعيد وليس ثمة حاضر يربطه. أما أن له صلة بالحاضر واهتمام على ضوء البناء للمستقبل فهذا قد وضع بينه وبين الاستماع إليه سد حائل لفقدان المجموعة من المتكلمين والمستمعين حوله في دائرته.
اهتديت إلى اكتشاف الرغبة الجميلة عنده في الكتابة بالانتباه إلى ما يسمعه من جليل الكلمة وعظيم الموضوع. فإذا ما انتهى من ملاحظته وتقديره لما ينتج عنه من النتائج خلا بنفسه وأهمل باقي المواضيع التافهة وجعل يسطر مشاهداته ويسجل احساساته وينظمها بأسلوب تصلح لكل قارئ وخاصة إذا كان يهتم بالمجتمع ويعمل على النهوض به وينصفه في كتاباته فلا يلومه في ضعفه ولا يعذره في إهماله ولا يتجنى عليه في ادعاءاته بل يصور الداء ويجد له الدواء بدون أن يشعر القارئ أنه في واقع مرير وأن الكتابة وصف لواقعه وعلاج له.
إن حياة هذا الإنسان بسيطة للغاية فإذا ما فرغ من عمله فإن انهماكه بإعداد تنظيم معاشه يكاد يملأ فراغه الذي يتهيأ له للكتابة أو القراءة ومع ذلك فإن اجتماعه بالناس لا يخلو من فائدة لهم وله وفائدتهم هو تسجيل ندبهم وتحويله إلى عمل وفائدته هو وجود مادة له للكتابة وإملاء ما تبقى من فراغه بدون عمل بالحديث إلى اخوته وأخواته وأصدقائه وبني وطنه لا بالكلام وإنما بالتأليف والنظم وإخراج ما عمق في الباطن يحز ويقتل دون جدوى إلى صوت دوي يسمعه القارئ ويستفيد منه فائدة كانت له عفوية لأنها لم تأت عن قصد وإنما جاءت وهو يريد أن يقضي ساعة من فراغه بالقراءة.
نظرت إليه وأخذت أفكر به وبعد الانتهاء من التفكير وجدتني أكتب فأقول: كم من إنسان يمكننا أن نستفيد من اتجاهاته وميوله في البحث والتدقيق فنحوله من آلة تعمل مستقلة في الخفاء إلى محرك يعمل في العلن، ومن طاقته وقدرته على الدوران والتنظيم ما يكفل حركته ويجدي عمله.
إن إنساناً من هذا النوع بإمكاننا أن نستفيد من ملاحظاته فنرفده بالمواد لتوسيع أفقه. كم من صحفي يستطيع الكتابة في صحيفته ومع ذلك تعوزه مادة الموضوع لتكون أساساً للكتابة. فهو في اليوم يسمع مئات الأخبار فهلا وجد منها خبراً يكتب لا لذاته وإنما لجوهره كما أنه في ذات اليوم يشاهد مئات الأنواع من المشاهدات المثيرة التي تستحق الذكر فهلا وجد منها حادثة صاغها بنزاهة وإنصاف وترك التحيز والانتماء الشخصي لتعليل أسبابها ومسبباتها.
كم من صحافة تنتظر بفارغ الصبر مثل هذا الإنسان لتضمه إلى أسرتها فإن الجهل به لا يوقف قدرته على قوة الملاحظة وربط الحوادث واستنتاج الأمور واكتشاف الباطن والحكم على الصدق والصواب وبيان أسباب العلة والمعلول، كما أن الحد من الاهتمام به لا يؤخره وضعه في قائمة الصحفيين، لا لإملاء الشواغر بل في فتح دائرة جديدة لها.
إن صحيفة هذا الإنسان هو دفتره الخاص به الذي لم ينتفع به أحد فكم تكون مادة الكتابة عنده أجمل إذا وسعناها لدائرة أخرى أكبر من الدفتر ولقراء أوسع انتشاراً.

منقول...!
[/align]