ولجوء الحكومة المصرية للتفاوض مع العمال المحتجين لم يأتِ عبرَ التنظيم النقابي الذي يُفترضُ فيه التعبير عن مطالب العمال وهمومِهم، بل تمَّ التفاوض مع العمال أنفسهم, وقياداتهم التي صنعتها الأحداث دونَ ترتيبٍ مُسْبَق، ولذا لم يكنْ مُستغرَباً أن يكونَ على رأس المطالب التي رفعها العمال إقالة اللجان النقابية الخاصّة بهم، بعدما فشلت في توصيل مشاكِلهم إلى الإدارة، حتى إن مواقفَ القيادات النقابية كانت أقرب إلى مواقفِ الحكومة منها إلى مطالب العمال.
وإذا ما وضعنا أجزاء هذه الصورة من احتجاجات غاضبة, وما قابلها من ضبطٍ للنفس من جانب الأجهزة الأمنية، تبعه تفاوضٌ مباشرٌ مع العمال, وتجاهُلٌ للتنظيمِ النقابيّ الرسميّ، ثمَّ ما انتهى إليه هذا التفاوض من نجاحٍ للعمال في تحقيق معظم مطالبهم؛ لتتسعَ دائرة الاحتجاجات بشكلٍ متسارعٍ لتشملَ قطاعاتٍ جديدة، ومازال "الحبلُ على الكِرار" كما يقولون. إذا ما وضعنا هذه الصور بجوارِ بعضِها فإن قراءة المشهد الكامل تقودنا إلى وجود حالةٍ من الاحتقان, والشعور بالظلم، تراكمت عبرَ سنواتٍ طويلة، لدرجة أن كثيراً من العمال المتظاهرين تعاملوا مع الأمر بمنطقِ أنهم ليس لديهم ما يخسرونه، وهو ما يفسِّر نجاحَ العمال في مواصلة الاعتصام, والإضراب عدَّةِ أيام، بل إنهم – وكما حدث في إضرابات عمال شركات الأسمنت – لجؤوا إلى خطوات تصعيدية مثل الإضراب عن الطعام، لكنَّ الجميع التزم بخطٍ أحمر، لم يتمَّ تجاوزه, وهو الحفاظ على الطابع السلمي للاحتجاج، دونَ أيِّ مساسٍ لا بالمصانع، ولا بممثلي الإدارة.
وأيّ محاولة لتفسير حالة الاحتقان بين العمال لا يمكنُ فصلها عن المُناخ الاقتصادي والاجتماعي العام في البلاد، فـ "فقراء مصر" في الألفية الثالثة هم أكثر بؤساً, وإحساساً بفقرهم، مقارنَةً بفقراء النصف الأول من القرن الماضي, وحتى منتصف السبعينيات، وهو ما يعود إلى اتساع الفجوة ما بين الفقراء والأغنياء، وتفشِّي نمطِ حياةٍ استهلاكيٍّ فجّ زادَ من وطأةِ شعور الفقراء بفقرهم، كما أن هذا النمط الاستهلاكي حوَّل كثيراً مما كان ترفيهياً, وكمالياً ليصبحَ ضرورياً, وأساسياً، ومع العجزِ المُتكرِّر عن إشباع هذه التطلُّعات المتزايدة بات الفقراء – وفي القلب منهم السواد الأعظم من الطبقة العاملة - يتجرعون فقرَهم كلَّ يومٍ عشرات المرّات.
فساد وركود
ومع انطلاقِ قطار الخصخصة مطلعَ تسعينيات القرن الماضي، وما صاحبه من قصصِ فسادٍ وإهدارٍ للمالِ العام، بعضُها أشبه ما يكونُ بالأساطير، تضاعف إحساس العمالِ بالظلم، خاصّةً بعدما تمت إحالة مئات الآلاف منهم إلى تقاعدٍ مبكر تحتَ مُسمَّى "المعاشِ المبكِّر" لينضموا إلى طابور البطالة، وأما من بقوا في وظائفهم فقد عانوا من توقف الدولة عن ضخِّ أيِّ استثماراتٍ جديدة في شركات القطاع العام، التي تمَّ تعديل وضعِها ومسمَّاها لتصبحَ شركات "قطاع الأعمال"، وتزامن وقف الاستثمارات مع شيوع نمطٍ متكرر من سوء اختيار القيادات؛ مما أدى إلى تدهور أوضاع هذه الشركات، وزاد "الطينَ بلّة" فتح أبواب الاستيراد على مصراعيها, وانهيار الاتحاد السوفيتي, وما كان يُعرف بدول الكتلة الشرقية، مما أدى إلى فقدان هذه الشركات لأسواقِها الداخلية, والخارجية مرّة واحدة، وهو ما انعكس على أوضاع العمال الوظيفية، حيثُ باتوا لا يتقاضون إلاّ رواتبهم فقط، وحتى هذه الرواتب تجمَّدت، وتضاءلت قيمتُها مع الارتفاع المتتالي لمعدلات التضخم.
أما فيما يتعلق بشركات القطاع الخاص أو الشركات العامة التي تمت خصخصتها، فإن عمال هذه الشركات يشكون من إطلاق يدِ مالكيها في عمليات الفصل والعقاب دون رَقابةٍ تذكر من الدولة، مما جعلهم عرضة لفقد مورد رزقهم في أيِّ لحظة، فالخطوة الأولى التي تفكر فيها أيُّ شركة عن تعرُّضها للتعثر أو نقص أرباحها هي تسريح العمالة أو تقليص عددها، وضاعف من وطأة ذلك أن ما يتقاضونه من رواتب لا يتناسب إطلاقاً مع حجم العمل المبذول، ولا حتى مع حجم الأرباح التي تحققها الشركات.
وإذا كانت هذه هي أوضاع العمال منذُ عدة سنوات، فلماذا التحرك الآن؟ .. ربما تكمن إجابة هذا التساؤل في شقين أساسيين:
الأول: يرتبط بحالة الحراك السياسي التي شهدتها البلاد في الأعوام الثلاثة الأخيرة، حيث نجح نشطاء المعارضة وحركات التغيير في انتزاع حق النزول إلى الشارع، وأصبحت أصوات المعارضة أكثر قوة وحدة، وتمثل مردود ذلك عند العمال البسطاء في حدوث "شرخ" للصورة المترسخة لديهم عن الدولة كقوة لا يمكن الوقوف بوجهها أو معارضة إرادتها، وساعد على ذلك تقاعد جيل القيادات العمالية الذي نجحت الحكومة خلال العقدين الماضيين في تدجينه وإدخاله حظيرتها، فهؤلاء كانوا بالفعل قيادات عمالية لها تواجدها ونفوذها بين العمال، لكنها فقدت هذا التواجد والنفوذ مع مسايرتها للخط والنهج الحكومي. وفاقم من أثر هذا التقاعد أن البدلاء لم يكونوا على نفس المستوى ومعظمهم بلا أيِّ تاريخ نقابيّ، ولعلَّ هذه المفارقة تتضح بقوة إذا ما قارنا بين أداء وزيرة القوى العاملة عائشة عبد الهادي، التي تُعَدُّ قيادة عمالية فعلية بدأت حياتها وسط العمال، وتدرجت في السلم النقابي حتى وصلت إلى كرسي الوزارة، وبين أداء قيادات اتحاد العمال، فالوزيرة لعبت دور "الإطفائي" لاحتواء اضطرابات العمال ومحاولة الاستجابة لمطالبهم، بينما اكتفت قيادات الاتحاد بترديد نغمة وجود قلَّة موتورة تشعل الفتنة وتحرِّض العمال على التظاهر.
درع واقٍ
أما الشق الثاني، فيتعلق بالدور المتصاعد لوسائل الإعلام المستقلة والمعارضة؛ إذ منحت هذه الوسائل ساتراً وقائياً للعمال من أن تطالهم عصا الأمن الغليظة، وهو ما شجَّع العمال على التمسك بمطالبهم والإصرار عليها، كما أن التركيز الإعلامي على احتجاجات العمال ومتابعتها بشكل مكثف منحهم نافذة يطلون منها على الرأي العام لعرض مطالبهم والحصول على دعمه، وهو ما وضع الحكومة تحت ضغط عامل الوقت للبحث عن حلٍّ كي لا تتفاقم الأمور، وبالإضافة إلى ذلك فإن وجود وسائل الإعلام المستقلة حدَّ كثيراً من لجوء الإعلام الرسمي لتشويه صورة المتظاهرين وبثَّ وجهة نظر واحدة، هي بالطبع وجهة نظر الحكومة.
وفي سياق الحديث عن الأسباب والعوامل التي دفعت العمال للاحتجاج، ربما يكون من المهم التطرق إلى ما ألمحت إليه وسائل الإعلام الرسمية حول وقوف جماعة الإخوان المسلمين وراء تحريض العمال على التظاهر، أو ما صرَّح به القطب اليساري محمود أمين العالم بشأن وجود تنظيمٍ شيوعيٍّ سريّ - يتكون من سبع تنظيمات اشتراكية ويسارية يقفُ وراءَ الإضرابات العمالية الأخيرة. ففيما يتعلق بالإخوان فمن الثابت تاريخياً أن جماعة الإخوان لم تتمتع يوماً بنفوذٍ يُذكر وسط الحركة العمالية، وحتى عندما خرج التنظيم النقابي العمالي من تحت عباءة اليسار, والاتحاد الاشتراكي نهاية السبعينيات فإنه انتقل إلى عباءة الدولة. أما بالنسبة لتصريحات العالم، فإن الرجل سارع بنفسه إلى نفيها، كما أن قيادات اليسار بمختلف أطيافها، من الناصريين, والتجمع, والاشتراكيين, والشيوعيين، أجمعت على عدم صحة تصريحات العالم، وأنها احتوت على مبالغات كبيرة.
انتفاضة غضب
وإذا كانت الاحتجاجات العمالية تتحرك بعفوية وبعيداً عن أيِّ قوة سياسية، فهل يعني ذلك أنها قد تمثل مقدمة لانتفاضة عمالية عنيفة وعشوائية قد يتسع نطاقُها ليشملَ قطاعات مجتمعية أخرى تشارك العمال شعورهم بالظلم؟ الإجابة عن هذا السؤال تطرحُ سيناريوهات متباينة، فالبعض مثل عمرو الشوبكي، الخبير بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، يطرح سيناريو متشائماً تجاه مسار هذه الاحتجاجات محذراً من تحولها إلى "انتفاضات عمالية عنيفة وبشكل عشوائي"، مرجعاً ذلك إلى "أن إضرابات العمال ليست مجرد احتجاجات مطلبية عابرة يمكن حلها على طريقة "العلاوة يا ريس" كما تتصور دائمًا الحكومة، إنما هي تعكس أزمة عميقة في بنية النظام السياسي، عمقتها التعديلات الدستورية الأخيرة التي لم تعِ أن المعركة قد انتقلت تقريبًا من ساحة الأحزاب والقوى السياسية المرئية إلى ساحة التجمعات غير المعروفة وغير السياسية".
وفي المقابل، فإن بعض المحللين يتوقعون أن تبقى الاحتجاجات العمالية داخل دائرتها المطلبية والوظيفية مستبعدين تطورها إلى انتفاضة شعبية عامة في مصر، مستشهدين في ذلك بحركة القضاة التي حافظت على تحركها في الإطار الوظيفي، مع الاستفادة مما يتيحه المحيط العام من أجواء مواتية، فالحفاظ على الطابع المهني للاحتجاجات، وما تحمله من مطالب يضمن للعمال من ناحية حشد أكبر قدر ممكن من القطاعات العمالية، كما يبعدهم من ناحية أخرى عن القبضة الأمنية العنيفة التي لا تتردد الدولة في استخدامها تجاه خصومها السياسيين.
أما بالنسبة للقوى السياسية الساعية إلى التغيير فعليها أن تعتمدَ على نفسها في صنع المستقبل الذي تريده، لا أن تراهن على تحركات واحتجاجات قوى مجتمعية أخرى، فصرخات الجوعى قد تأتي لهم بما يسدّ رمقهم، لكنها بالتأكيد لا تبني مستقبلاً