مؤسسة البريد السعودي.. قراءة تسويقية
توفيق الدوسري (*)...صحيفه الجزيره...
منذ تحول المديرية العامة للبريد إلى مؤسسة البريد السعودي والجميع كان وما زال يتوقع إصلاحات جذرية في هذا النشاط الحيوي, الذي كان مهملاً سنوات طويلة، وبالفعل فقد هبت رياح التغيير أخيراً وبدأت المؤسسة بحلتها الجديدة بإحداث موجة تغيير كبيرة قوبلت بشيء من التحفظ من البعض وبالهجوم المباشر من البعض الآخر. وبنية النقد الخالص, الذي يؤمل منه أن يكون موضوعياً في طرحه هادفاً في فحواه، كُتبت هذه الأسطر كمحاولة بسيطة لقراءة المنهجية (الإستراتيجية) التسويقية الظاهرة التي تتبعها المؤسسة في تطلعاتها الجديدة.
أولاً: إن التغير في توجه البريد من منظمة غير ربحية إلى منظمة تفكر بعقلية القطاع الخاص قد أحدث إشكالية فهم مزدوجة لدى كل من المؤسسة والمستفيدين النهائيين, فالمؤسسة من جهة ترى أنه لا سبيل لتغطية تكاليف التوجه الجديد إلا من خلال مستلم البريد؛ ولذلك فقد قررت رفع أسعار صناديقها في المكاتب وتصنيفها إلى فئات (فردي، عائلي، مؤسسة، وشركة) وذلك كمحاولة لمنع سوء الاستخدام الممارس في الصناديق المؤجرة، وهذا ما أثار حفيظة بعض المراقبين والمستفيدين: رفع الأسعار والفئات الجديدة، فقد توقع البعض أن تُلغى الرسوم أو تُخفض أو على الأقل ألا ترتفع!.
ونتيجة لذلك فقد اتهمت المؤسسة بالطمع والجشع، وبدأ البعض يشكك في قدرتها على تنفيذ خططها، ومن ذلك فرز ومراقبة البريد العائلي وبريد المؤسسات والشركات, إلا أن المؤسسة على ما يبدو كانت مستعدة لهذا التغيير عندما وقعت عقداً لتطوير العمليات البريدية مع شركة (سيمنس) ليساعدها في تطبيق المهمة الجديدة.
ما فات هو جزء من الحقيقة ليس إلا؛ إذ يبدو أن البريد كانت تفكر بأعمق من ذلك، فالموضوع ليس الصناديق بل خدمة (واصل) الجديدة، فكيف للبريد أن تدفع الناس إلى الاشتراك في واصل إلا عن طريق رفع سعر الخدمة الأقل جاذبية (الصناديق) حتى تتساوى مع الخدمة الأكثر جاذبية (واصل)، وعندما تتساوى الأسعار تكون الغلبة بالطبع ل (واصل). إذن فالسياسة التسعيرية الجديدة للبريد كان القصد منها كما يبدو دفع الناس إلى (واصل) دفعاً، وهذه طريقة غريبة في الاستجابة لحاجات ورغبات المستفيدين، وهي بالتأكيد ليست نابعة من عقلية تتنفس القطاع الخاص.
ثانياً: لو استطاعت مؤسسة البريد السعودي الوصول ب (واصل) إلى بر الأمان فلن يكون ذلك إنجازاً كما تعتقد المؤسسة، بل على العكس تماماً فسوف يكون ذلك عبئاً عليها إلى الأبد؛ لأن التوقعات تكبر كلما كان هناك رسوم تدفع مقابل الخدمة، والخوف كل الخوف أن تتكون لدى المستفيدين نفس النظرة السلبية التي ربما ما زال يحملها بعض عملاء الشركة السعودية للاتصالات.
إن المنهجية (الإستراتيجية) الحالية التي تعمل بها المؤسسة هي الضد تماماً للعقلية (الربحية) بعيدة المدى التي دائماً ما تسعى إلى تعظيم الأرباح من خلال خفض التكاليف وزيادة المبيعات بإرضاء العملاء، فالمؤسسة زادت من تكاليفها (بدون شك) وبدأت في تنفيذ (واصل) الذي يهدف إلى تركيب 5 ملايين صندوق، ولكن التركيب وحده لا يجلب الأموال، بل هي الاشتراكات وكما تريد المؤسسة بالضبط - أن يكون لكل وحدة مستقلة اشتراك - فهل المؤسسة واثقة إلى هذه الدرجة أن كل بيت رُكب على جداره صندوقا سوف يشترك في الخدمة وأنه سوف يستخدم الصندوق بالشكل الذي خطط له، أم ستفاجأ المؤسسة بنمط مختلف للاستهلاك (كاشتراك عدة بيوت أو الحارة كلها في صندوق واحد مثلاً)، كما فوجئت مؤخراً بتحطيم صناديق (واصل) في بعض أحياء الرياض.
والسؤال الأهم من هذا كله: ماذا لو ركب الصندوق ولم يشترك صاحب البيت أو الشقة أو المؤسسة أو الشركة؟ فما هو مصير الصندوق الفارغ؟ ولماذا يركب أساساً دون طلب من المستفيد؟! هذه تكاليف إضافية كان للمؤسسة الخيار بأن تتجنبها لو أنها تبنت المنهجية الأكثر عقلانية وربحية: (مجاني وحسب الطلب) وليس (بدون لف أو دوران ولكل شخص عنوان).
أما تقديم الخدمة مجاناً فهو الطريق الأمثل؛ لأن تكون المؤسسة صاحبة إنجاز بإرضاء المستفيدين, وأن تنشط الطلب الكلي على التجارة الإلكترونية والتسويق المباشر المشتق بدرجة كبيرة من الطلب الكلي على البريد, وهذه المنهجية التي تعمل بها المؤسسة حالياً تدعو إلى الخوف على مستقبل التعاملات الإلكترونية في ظل الرسوم المفروضة على مستلم البريد.
أما التركيب حسب الطلب فهو الاستجابة الطبيعية لحاجات العملاء، والتحول المنطقي في تقديم الخدمة، فكيف افترضت البريد أن كل بيت يحتاج صندوقاً نظير مقابل مالي، هذه الفرضية سوف تظل تحت المجهر الدقيق حتى تحدث معجزة لتثبت صحتها.
وإذا كان هدف المؤسسة هو بناء البنية التحتية للبريد فمن الأولى أن تبدأ بالمستفيدين الراغبين بالخدمة لا أن تبدأ الخدمة وتفعلها وتنتظر حتى يطلبها المستفيد، فهذا يذكرنا بفلسفة البيع القديمة التي حدثت بعد الثورة الصناعية، فالشركات آنذاك كانت تنتج ثم تفكر في البيع، ولكن الفكر التسويقي الحديث ينادي بعكس المعادلة والبدء بحاجة العميل (المستفيد) ثم الإنتاج أو تقديم الخدمة.
ثالثاً: تشدد المؤسسة على أنها سوف تستخدم أكثر التقنيات تطوراً في عالم البريد، بل إن المؤسسة تؤكد على أن التقنية المستخدمة في (واصل) هي سَبْق تقني في الشرق الأوسط لم يسبقه إليها أحد, والتقنية شيء جميل وحضاري وتوجه يستحق الإشادة لو لم تؤدِ إلى تكاليف إضافية ضخمة لخدمة يفترض بها أن تكون مجانية لمستلم البريد.
فمن الأهداف المهمة لتطبيق التقنية في مجال الأعمال توفير المال والوقت والجهد لكل من المنظمة والعميل (المستفيد)، ويبدو أن المؤسسة هي المستفيدة فقط من تطبيق التقنية، أما (المستفيد) فيجب أن يدفع ضريبة تبني التقنية.
رابعاً وأخيراً: على مؤسسة البريد السعودي أن تعيد التفكير جدياً في أن تكون خدمة توصيل البريد إلى البيوت مجانية لمستقبِل الرسالة ليس أسوة بأحد, ولكن لأن المرحلة الاقتصادية التي تعيشها المملكة حاليا تستوجب ذلك، ومستقبل التجارة والمعاملات الإلكترونية مرهون بنجاح البريد، والقول إن البريد سوف تخسر لو استلم مستقبِل الرسالة رسالته مجاناً هو كلام عار من الصحة؛ فالبريد تستطيع أن تفيد وتستفيد أضعافاً مضاعفة من الشركات التي تحلم بخدمة السعوديين مباشرة ودون وسيط سواء كان من داخل الحدود أو من خارجها، وتقييد البريد بهذه الطريقة هو عائق جديد يضاف إلى مجموعة العوائق التي تعاني منها التجارة الالكترونية بالمملكة.
* محاضر التسويق بمعهد الإدارة العامة
dosarit@ipa.edu.sa