التصميم الداخلي لمباني معظم المؤسسات الكبرى والصحف يتـّجه نحو اعتماد المكاتب المفتوحة التي توفر لكل موظف طاولة مكتب فوقها جهاز حاسوب ومساحة محددة للأوراق. هذه المكاتب لا فواصل بينها، ومن البديهي إذن أنّ الموظف يستطيع، وهو جالس وراء مكتبه، أن يتابع تحركات زملائه وأصواتهم وعطاسهم ونميماتهم وبراداتهم !.
ولا يخفى عليك أن هناك من ينتظر بدء ساعات الدوام حتى ينهي من هاتف مكتبه كل مكالماته الخاصة.. بالطبع على حساب المؤسسة التي يعمل لصالحها وحساب أعصاب زملائه وجيرانه في المكتب.
وبما أننا نمتهن خلط الأوراق فمن الطبيعي أن نتحدّث بهموم المنزل في العمل ثم نعتل همّ العمل إلى المنزل لنمارس الشكوى مرة ثانية في المكان والزمان الخاطئين.. ما دمنا كذلك فإنني أجزم أنّك وأنت تجلس إلى مكتبك قد سمعت زميلك يرطن في مشاكله العائلية وخلافاته الزوجية.. وهذه تضاف إلى أعباء عملك شئت أم أبيت.
سياسة المكاتب المفتوحة التي نعتبرها توجها حديثا ونتوسع في تطبيقها ثبت أنها لا تعود بالفائدة العمليّة المرجوّة، فقد تنبـّه الغرب مؤخّراً إلى المعضلة التي سببتها هذه العصرنة المعمارية من خفض للإنتاجية بشكل واضح وشعور العاملين فيها ب(وجعة رأس) وبضيق نفسي وانتكاس حالتهم المزاجية بسرعة بسبب افتقادهم مساحة خاصة لا تتأتى إلا للمدراء ورؤساء الأقسام.
المثير أن خبراء السلوك الإنساني ربطوا الحالة السابقة من فقدان الخصوصية في العمل بسرّ تمسّك الأغلبية من الموظفين العاملين داخل المكاتب المعنية، بعد انتهاء العمل والعودة للمنزل، بقيلولة يقضونها وحدهم دون أن يقتحم خلوتهم أو يعكر حواسهم دخيل، أكثر من غيرهم من الموظفين داخل مكاتب مستقلّة.
بمناسبة ذِكر القيلولة، هناك مؤسسات في اليابان وفرنسا وأمريكا وأسبانيا تلحق بها غرف خاصة للاسترخاء مفروشة بأرائك وأسرّة، فيمنح كل موظف نصف ساعة ينفصل فيها عن زملائه وضجيج العمل ليرتاح وقد يذهب في غفوة خاطفة تجدد اليقظة وتشحن بطاريته الفسيولوجية. أتساءل، بيني وبين نفسي فقط، ماذا لو طبقنا الفكرة داخل مؤسساتنا ذات فترات الدوام الطويلة؟.. المشكلة الوحيدة أن الموظف هنا سيغط بنوم عميق ولن يوقظه بعدها شيء.. بل ربما يحتاج أيضاً أن يستعين بما كان يفعله الأديب الدنمركي "أبسن" الذي اعتاد أن يكتب ورقة يعلقها إلى جوار سريره وقت نومه أو قيلولته تقول: لم أمت بعد، وإن كنت أبدو كذلك!.