بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الإشاعة من الأمور التي حذر الشرع منها أشد التحذير ، لما لها من وقع في نفوس الناس ، وما تحدثه من عواقب قد لا تحمد عقباها ولا يعيها مروجها ، فالواجب على المسلم التثبت في نقل أي خبر كان ، فلا يفرح بسماع شيء قبل التأكد منه ، وهذا هو منهج الإسلام في نقل المعلومات .
ليلة أمس قد فجعنا بشخص نسأل الله له العفو من الله سبحانه ينقل لنا وفاة أخونا وحبيبنا ( أبا سلمان ) بل يصر ويؤكد هذا الخبر والجميع بدء يعزي فيه وهو على قيد الحياة ,وكلنا يعرف في وقت الفتن تنشط الدعاية وتكثر الإِثارة وهنا يأتي دور الإِشاعة .
ومن المعلوم أن التثبت مطلب شرعي لقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) . وفي قراءة أخرى ( فتثبتوا)
وقد حذر الشارع أشد التحذير من نقل الشخص لكل ما يسمعه، فعن حفص بن عاصم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع ) رواه مسلم .
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع) .
"قَالَ النَّوَوِيّ : فَإِنَّهُ يَسْمَع فِي الْعَادَة الصِّدْق وَالْكَذِب فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ , وَالْكَذِب الإِخْبَار عَنْ الشَّيْء بِخِلَافِ مَا هُوَ وَلا يُشْتَرَط فِيهِ التَّعَمُّد " .
وعن المغيرة بن شعبة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ) رواه البخاري .
قال الحافظ ابن حجر :
(قَوْله : ( وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ ) . . .
قَالَ الْمُحِبّ الطَّبَرِيُّ : ". . . وفي معني الحديث ثلاثة أوجه :
أولها : الإِشَارَة إِلَى كَرَاهَة كَثْرَة الْكَلام لأَنَّهَا تُؤَوِّل إِلَى الْخَطَأ . . .
ثَانِيهَا : إِرَادَة حِكَايَة أَقَاوِيل النَّاس وَالْبَحْث عَنْهَا لِيُخْبِر عَنْهَا فَيَقُول : قَالَ فُلان كَذَا وَقِيلَ كَذَا , وَالنَّهْي عَنْهُ إِمَّا لِلزَّجْرِ عَنْ الاسْتِكْثَار مِنْهُ , وَإِمَّا لِشَيْءٍ مَخْصُوص مِنْهُ وَهُوَ مَا يَكْرَههُ الْمَحْكِيّ عَنْهُ .
ثَالِثهَا : أَنَّ ذَلِكَ فِي حِكَايَة الاخْتِلاف فِي أُمُور الدِّين كَقَوْلِهِ : قَالَ فُلان كَذَا وَقَالَ فُلان كَذَا , وَمَحَلّ كَرَاهَة ذَلِكَ أَنْ يُكْثِر مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ لا يُؤْمَن مَعَ الإِكْثَار مِنْ الزَّلَل , وَهُوَ مَخْصُوص بِمَنْ يَنْقُل ذَلِكَ مِنْ غَيْر تَثَبُّت , وَلَكِنْ يُقَلِّد مَنْ سَمِعَهُ وَلا يَحْتَاط لَهُ . قُلْت : وَيُؤَيِّد ذَلِكَ الْحَدِيث الصَّحِيح (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم ) اهـ بتصرف يسير .
وعن أبي قلابة قال : قال أبو مسعود لأبي عبد الله أو قال أبو عبد الله لأبي مسعود : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا ؟
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بئس مطية الرجل زعموا "
قال العظيم آبادي : " ( بِئْسَ مَطِيَّة الرَّجُل ) : الْمَطِيَّة بِمَعْنَى الْمَرْكُوب (زَعَمُوا) : الزَّعْم قَرِيب مِنْ الظَّنّ أَيْ أَسْوَأ عَادَة لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَّخِذ لَفْظ زَعَمُوا مَرْكَبًا إِلَى مَقَاصِده فَيُخْبِر عَنْ أَمْر تَقْلِيدًا مِنْ غَيْر تَثَبُّت فَيُخْطِئ وَيُجَرَّب عَلَيْهِ الْكَذِب قَالَهُ الْمَنَاوِيُّ .
ولذلك حرص سلفنا الصالح على التثبت والحذر من الإشاعات :
قال عمر رضي الله عنه : ( إياكم والفتن فإن وقع اللسان فيها مثل وقع السيف ).
ولقد سطَّر التاريخ خطر الإِشاعة إذا دبت في الأمة وإليك أمثلة من ذلك :
1- لما هاجر الصحابة من مكة إلى الحبشة وكانوا في أمان ، أُشيع أن كفار قريش في مكة أسلموا فخرج بعض الصحابة من الحبشة وتكبدوا عناء الطريق حتى وصلوا إلى مكة ووجدوا الخبر غير صحيح ولاقوا من صناديد قريش التعذيب . وكل ذلك بسبب الإِشاعة .
2- في غزوة أحد لما قتل مصعب بن عمير أُشيع أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل : قُتل رسول الله فانكفأ جيش الإِسلام بسبب الإِشاعة ، فبعضهم هرب إلى المدينة وبعضهم ترك القتال .
3- إشاعة حادثة الإِفك التي اتهمت فيها عائشة البريئة الطاهرة بالفاحشة وما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه من البلاء، وكل ذلك بسبب الإِشاعة .
إذاً ما هو المنهج الشرعي في التعامل مع الأخبار ؟
هناك ملامح في التعامل مع الأخبار نسوقها باختصار :
1) التأني والتروي :
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (التأني من الله و العجلة من الشيطان) .
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
2) التثبت في الأخبار :
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين َ) وفي قراءة (فتثبتوا)
سبب نزول الآية :
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، وأنه لما أتاهم الخبر فرحوا ، وخرجوا ليتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة .
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضباً شديداً، فبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد ، فقالوا : يا رسول الله : إنا حُدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنا خشينا أن يكون إنما رده كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله !
وأن رسول الله استعتبهم ، وهمّ بهم ، فأنزل الله عز وجل عذرهم في الكتاب : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين }
معنى التثبت : تفريغ الوسع والجهد لمعرفة حقيقة الحال ليعرف أيثبت هذا الأمر أم لا .
والتبين : التأكد من حقيقة الخبر وظروفه وملاباساته .
يقول الحسن البصري : "المؤمن وقاف حتى يتبين" .
وختاماً : نوصي الجميع بالتثبت وعدم التسرع في نقل الأخبار حتى يتأكد من صحتها ، حتى لو كان الخبر ساراً ، لأنه إذا تبين خطأ الناقل فستسقط عدالته عند الناس ...
ويكون عرضة للاستخفاف ممن له هوى في نفسه ... وفق الله الجميع لما يحب ويرضى .
فوالله ثم والله أننا لم نذق حلاوة النوم ولم يهدء لنا بال حتى سمعت صوت حبيبي أبا سلمان بنفسي .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى أله وصحبة أجمعين
محبكم قلبكم الكبير