في غمرة تنازلاته للجماهير التونسية الغاضبة, قال بن علي انه كان لا يعلم بما آلت اليه الأمور وان اعوانه كانوا يخفون عنه حقيقة الاوضاع في بلاده. ومثل هذا الاعتراف الذي يأتي "بعد خراب البصرة" وسيل الدماء البريئة في شوارع المدن التونسية يبدو مأساوياً بل انه تراجيدي يصلح للتمثيل على المسرح الوطني في تونس الواقع في شارع بورقيبة.
كيف يتأتى ان رئيس دولة يحكم منذ 23 عاماً يجهل ما يجري بين شعبه وفي الشوارع القريبة من قصره في قرطاج. قد يقول قائل ان هذا مجرد ادعاء من زين العابدين الذي كان يبحث عن أية ذريعة تساعده على تهدئة الثائرين عليه. لكن هذا لا يهم اذا ما اردنا استخلاص العبر. لان هذا الاعتراف لرئيس اسقطه الشعب يعيدنا الى الدور الخطير الذي تلعبه "بطانة الحاكم", لانها قد تقوده الى السقوط في الهاوية وهذا ماكانت عليه امس خاتمة "الآلة الجهنمية للطغيان" كما وصفها احد التونسيين لحكم بن علي.
يُروى عن الامام ابن تيمية انه سئل, اذا كنت تملك دعاءً واحدا الى الله سبحانه وتؤمن بانه تعالى سيستجيب اليه فبماذا تسأل الله, فقال الامام: ادعو الله ان يرزق الحاكم بطانة صالحة..
قبل سنوات دُعيت الى تونس لحضور مؤتمر للحزب الدستوري, وتحت وقع النشيد الوطني التونسي الزاخر بالمعاني النبيلة التي تحرك المشاعر بحنجرة آلاف التونسيين من حزبيين وعمال منح الرئيس فترة انتخابية جديدة في ظل خطابات تمجيد, تعتقد وانت تسمعها بانه يجلس متربعا في قلوب التونسيين وخلف ضلوعهم.
تذكرت ذلك المشهد وانا اتابع سيل الصور المتدفقة من شوارع تونس وهي تمثل جماهير الشعب الثائرة بكل فئاته من اساتذة الجامعات والصحافيين والحزبيين وزعماء اتحاد الشغل, وهم يطالبون بالحرية ووضع نهاية لعهد القمع, فلم اجد ان هذه الجماهير تنتمي الى بن علي وعهده ورئاسته على مدى ربع قرن, انما هي في كل ذرة منها تستعيد روح ابي القاسم الشابي واشعاره التي اعطت للغة العربية قاموساً من الكرامة وتقديس الحرية..
لم يكن هناك وقت امام بن علي لتعويض التونسيين عن غفلته عن واقع شعبه لان بطانته ومستشاريه اخفوا عنه الحقائق... لكنه باعترافاته يقدم للانظمة العربية من المحيط الى الخليج درسا مفيدا, وهو ان لا يستبدلوا نصائح وقرارات المستشارين والمقربين بالمؤسسات الدستورية فهذا لا يفيد في عصر المجتمع المدني والدولة الحديثة وفوقهما العولمة وتأثر الشعوب والحضارات بعضها ببعض.
من دون بناء دولة المؤسسات التي تتنافس فيها الحكومات مع المعارضة على وضع الخطط, ومن دون برلمان ديمقراطي يحاسب ويراقب ويسائل, ومن دون قضاء مستقل, فإن الاعتماد على "البطانات" لا يحمل في طياته غير الرشوة والفساد والتسلط والقمع.
يقول المفكر الاجتماعي الامريكي اهرنبرغ " اذا لم توضع السلطة تحت المحاسبة فانها سرعان ما تتحول الى سلطة شريرة" وهذه هي خلفية سيرة حكم بن علي في تونس الخضراء.