كان يوما احتفاليا مسؤولا انتشينا فيه تظاهرا بالحليب (سيد الأشربة) ووهبناه-بسخاء- ما لم نهبه للأم من ذي قبل ..،وهاهنا اقترفنا ما يمكن توصيفه بنكران الجميل/العقوق... إذ وهبنا الحليب يوما لم يصطدم هذه المرة بجدار الابتداع!ربما لرمزية"الفطرة" التي يشي إليها : اللبن /الحليب؛ ما أفسح ليومه أن يمرق في بدء عامنا هذا بسلام دون أن يتعكر صفو بياضه بسواد لغطنا..كما هو شأننا عندما نتخبط روحة وجيئة ما بين المتن والحاشية.
أرأيتم إذن كيف هي فاعلية الحليب/البياض عندما نسلك به أمعاءنا.. ونعبد به طرقنا. (دربك أبيض يالطيب) وليبق الإسفلت بوجهه المكفهر سوادا دربا لحوافر مركباتنا التي تواطأت على القتل لنا عن سبق إصرارنا وترصدنا.
فيا ليت أن أيامنا كلها إذ ندشنها نستأنفها ببياض نجلو به سماكة جدران قلوبنا وما قد ران عليها مما اكتسبته أيدينا...وقد عفا ربنا عن كثير.
كلما رأيت "الحليب" منتصبا بهامة بياضه قبالتي؛ تذكرت إبانها: "النفط" دون أن أتهيأ لذلك.. وطفقت من حينها أبحث عن سبب ورود هذا الخاطر/الشيطاني -الذي ليس لي فيه من حول ولا طول-!... وهل أننا محاسبون على وارد الخطرات التي تأتينا رغم أنوفنا؟!وهي من فعل إبليس اللعين وبقية من اصطفه من مردة الشياطين.
بيد أني في هاته الاحتفالية البياضية نقاء والرقراقية شفافية تلبسني وسواس من نوع آخر وهو:
عرس يتربع على كوشته: "الحليب" بينما "أثداء الأمهات" يفتقدن في هذا اليوم الحليبي الأغر! أمر لا يمكن أن يقاربه شبها أو يدانيه مضاهاة إلا "نفط" يفتقر لمعامل تكرير تشتغل ليلها ونهارها في سبيل استثمار "الإنسان" لعمارة هذه الأرض.
ومن هنا أدركت أن "النفط" هو حليب أمنا: (الأرض) ومن لم يؤنث الأرض فهو آثم!...هكذا إذن هي الأنثى تبدو مفتاحا للخير كله في حين نظل نحن الأقفال الصدئة. التي لربما أنه بات لا يجدي معها فلاحا إلا الكسر.
وددت لو أني التقيت الآن شابا - أظنه من أمريكا الجنوبية - إذ كان فيما مضى لا يفتأ يحدثنا بزهو فارط عن يومهم الحقوقي الذي أقاموه (للبصل) ابتغاء رد مظلمة امتهان طاولت "البصل" وأهله!
أبدو اليوم أطول منه قامة..ذلك أن المقارنة بأي حال لا تصح فيما بين "الحليب" و"البصل".. بل نحن إن فعلنا بحمق تلك المقارنة نكون قد أزرينا بالحليب وأمعنا في الحط من قدره..؛لكنها النفس الأمارة بالسوء قد تجرجرنا عنوة باتجاه الحمق أحيانا.
وإذن.. فدعك من كون إدمان "البصل" إنما يورث الأنيميا ويهيج القولون! . إذ لو لم يكن في البصل سيما رائحته الفضائحية لكان جديرا بأن ينال هو-وأهله- ما قد ناله في أمريكا الجنوبية من مهانة وإضرار!
تشرب "الحليب" هانئا فلا يلبث أن يحفظ لك سرك.. فاتخذه صديقا ولا تغادره في صغيرة ولا في كبيرة من أمرك.
تطيل المكث في "المسجد" كلما ملأت جوفك حليبا..ولا أحد له سلطان على إخراجك من المسجد.. إنما سلطان :"النص" معك ولك. وجه الاستشهاد هاهنا : جامع البياض في كل، إذ المسجد يعمر قلبك "بياضا" بينما يملأ الحليب بقية أعضاء جسدك ببياض العافية.
نكهة الحليب: لا زعيم مقربا.. ولا إنسان تقيا أو فاجرا يمكن أن يتأذى منها..فخاطب إذن من شئت عقب احتسائك كوبا من "الحليب"..بله اتخذه عطرا وحاول أن تستاك به(تتخذه مسواكا) ليقيك شر السوس وما تصرف من فعلها الثلاثي :س ا س.
بقيت وحدي متخذا ركنا قصيا.. إذ لا أحب أن يبصرني أحد وأنا أجهد نفسي في كفكفة أدمعي المنثالة صبا على وجنتي.. بيوم زاه يحتفل فيه بـ"الحليب"!..لا أحب-والله- أن أجعل من يومه البهي كدرا بمثقلات الحزن ... وبخاصة أنه :هو أول مدرسة تلقيت فيها أبجديات البياض وحبه.وكان من أمتع دروسه درس:لا تفسد على الآخرين-أي آخرين- فرحهم! بل إن استطعت أن تزيدهم فرحا فافعل.
غير أنها سطوة "اليتم".. إذ تذكرت أمي :"موضي عبد الله السيف" فعرفت إذ ذاك السبب الذي جراءه ينقص وزني عاما إثر عام...وحيث لا أنثى فلا "حليب" إذن.فهل أن يوما سيأتي نضمحل فيه إذ لا :"امرأة" تأخذنا في كنفها؟
لو أن وزارة التربية والتعليم جعلت من "الحليب" موضوعا لاختبار مادة الإنشاء/التعبير- ولعل هذا ما ستفعله- ثم تفاجأت بهذه الإجابات:
طالب (1): كتب عن عدم حماية المستهلك من عبثية استهانة مصانع الألبان بإنسان هذا البلد وذلك عطفا على حالات الغش وقد استحالت ظاهرة.
طالب (2) جاءت كتابته.. بصوغ مفردات محشوة بالتأنيب لأمه التي لم تكن تحفل بالمرة بشأن: "الحليب" في الأثناء التي هي من قد أجرأه بالتواطؤ مع والده- وهما له القدوة- على الشغف بالمشروبات الغازية إذ لا تعمر موائدهما إلا على مرأى من المشروبات الغازية.
طالب(3): عقب أن رسم شكلا يظهر بادي الرأي أنه لبقرة إلا أنك إذا قلبت الورقة رأسا على عقب ظهر لك من رسمه أنها لعلبة"حليب"- أوجز إجابته بقوله:الله لا يحرم "أطفالنا" منهما.. أما الأمهات فقل عليهن : السلام.
طالب (4): اكتفى إجابة بأن كتب عن أم له من "الرضاع" يحبها أشد من أمه!
طالب (5): دوزن إجابته على هذا الموال:حاء .. حاء..
في الدنيا أعشق من حاءات ثلاث:
حاء.. حليب كل صباح
حاء.. حنين بالغدو وبالرواح
وحاء حب إن كتمت السر دهرا أو أ باح
طالب(6):كتب الآتي: آثرت أن أجعل كراسة إجابتي بيضاء كبياض الحليب.. أملا بأن تكون القلوب بمثل هذا النقاء.
طالب(7):ولأني أحب محمداً صلى الله عليه وسلم -كذا كتب الطالب.. فإني بهذا اليوم أشهدكم بأن أحب الأسماء إلي هو اسم :" حليمة" لأنها هي من قد شرفت بإرضاع نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
.....أستاذ مادة الإنشاء/ التعبير كيف سيتعامل مع هذه الأجوبة التي جاءت بصورة لم يكن قد ألفها من قبل إذ إنه قد اعتاد أجوبة تقليدية لقنها تلامذته قبلا... ما أخشاه أن أكاديميا في جامعة القصيم يرسبهم بسبب أنه لم يؤمن بعد بجدوى الحليب.
* أكاديمي في جامعة القصيم
جريده الوطن
رد مع اقتباس
