أفضل المدراء: القويُّ الأمين
وذلك هو العملة النادرة في الإدارة، في عالم الأمس واليوم..
فمنذ قديم الزمان رفع أمير المؤمنين الفاروق، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يديه إلى ربه عز وجل وقال عبارته المشهورة:
«اللهم إني أشكو إليك فجورَ القوي، وضَعْفَ الأمين».
ودعاء الفاروق وشكواه على التغليب لا التعميم، بطبيعة الحال، فقد وجد في عهده، رضي الله عنه، وفي كل عهد، رجال تنطبق عليهم الصفتان النادرتان: القوة والأمانة..
والفاروق عمر بن الخطاب نفسه، من أقوى النماذج في التاريخ البشري كله لتوافر (القوة والأمانة) معاً، فقد كان في غاية القوة لا يخشى في الله لومة لائم، حتى انه رضي الله عنه يغلب الشيطان، والعياذ بالله من شياطين الجن والإنس، فقد ورد في الحديث الشريف: أن الشيطان لا يسلك طريقاً يسلكه عمر بن الخطاب..
وذلك لقوة عمر وخوف الشيطان منه..
أما أمانة عمر بن الخطاب وعدله فقد سارا مسير الأمثال، بل سارا في التاريخ مسيرة الشمس في الكرة الأرضية..
٭ ٭ ٭
ومهما تقدَّم علم الإدارة وفنها وحلَّق عباقرتها في الإبداع والابتكار، فقصارهم في تعريف أفضل المدراء والعاملين، على الإطلاق، أن يستلهموا قول الله عز وجل: {إن خيرَ من استأجرتَ القوي الأمين} - سورة القصص، الآية (26).
وقد قدّم الله، تبارك وتعالى، القوة على الأمانة في محكم التنزيل، مع أن كلا الصفتين أساسيتان هنا، لأن الضعيف - وإن كان أميناً - يضَيِّع عملك الذي أوكلته إليه، بسبب ضعفه رغم أمانته، ويوجد حوله من هو أقوى منه وأدهى، فيفْسد ومديره الأمين لا يستطيع ضبطه ولا اكتشافه، بسبب ضعف هذا الأمين، ومن معاني الضعف الذي هو ضد القوة هنا، ضعف التفكير وضعف الذكاء وربما ضعف العقل أيضاً، هنا ينفذ المرؤوسون الأقوياء إلى ما يريدون من فساد يحقق لهم مصالح شخصية على حساب المصلحة العامة، مستغلين ضعف مديرهم، وعدم معرفته بهذه الأساليب، وسذاجته (فالسذاجة الحقيقية ضعف) وبالتالي يفْسدون وهو لا يشعر، وقد يوقع لهم على ما يريدون وهو لا يدري، فالضعف مصيبته، لأنه إذا تكامل صفة سيئة تشمل قدرات الإنسان المختلفة وتشلها..
وقد ورد في الحديث الشريف قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تَعْجز، وإن أصابك شيء فلا تقل «لو أني فعلت كذا لكان كذا» ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان» - رواه مسلم.
وفي هذا الحديث الشريف توضيح للقوة بأن يحرص الإنسان - جهده كله - على ما ينفع، وأن يستعين بالله عز وجل، ويبعد عن العجز والكسل والتواني، وألا يتردد ويتحسر على الماضي بل يجد ويجتهد - مستعيناً بالله - في تعديل أخطائه والاستفادة منها لا التحسر عليها، فإن كل ابن آدم خطّاء، في الإدارة وغير الإدارة، الكمال لله عز وجل، وإن الحسنات يذهبن السيئات في الدنيا والآخرة أيضاً باذن الله تبارك وتعالى..
إذن، فإن الضعيف وإن كان أميناً، لا يصلح لإدارة عمل هام، لأن ذلك - ببساطة - تكليف لا يستطيع القيام به، والإدارة في جوهرها تكليف قبل أن تكون تشريفاً، والله عز وجل يقول: {لاتكلَّف نفسٌ إلا وسعها} سورة البقرة - الآية (233)..
كذلك الأمر في المرؤوسين، لا يصح أن يكلف موظف من قبل مديره القوي أو غير القوي، بأكثر مما يستطيع ويطيق، فإن هذا من أسباب الفشل الإداري، وتعطيل مصالح الناس..
٭ ٭ ٭
إن مشكلة العالم النامي - وفي مقدمته العالم العربي والإسلامي - في سوء الإدارة قبل كُلِّ شيء: سوء الإدارة هو السوس الذي يخرِّبُ كُل شيء..
في ظل سوء الإدارة ينتشر الفساد انتشار النار في الهشيم، فلا يكاد يأتي على شيء الا جعله كالرميم، والفساد هو باختصار: «استغلال السلطة لتحقيق منفعة خاصة».
فمع سوء الإدارة يسعى كثير من المدراء لاستغلال سلطاتهم لتحقيق منافعهم الخاصة قبل المنفعة العامة، وعلى حساب المصلحة العامة، فيتفشى الاختلاس من المال العام، بطرق مدروسة مصبوغة بمواد النظام (والأنظمة دائماً صامتة وقابلة للتطويع والتمطيط والتحايل إذا فسدت النية وتم التواطؤ) وتنتشر «المحسوبية» في توظيف الأقارب والمعارف على حساب الكفاءات المستحقة للتوظيف، ويتم تداول الفساد بين المدراء الفاسدين في مختلف الإدارات (والطيور سرعان ما تقع على بعضها) وتصبح قاعدة: «شدّ لي واقطع لك» قاعدة ذهبية في الإدارة، فيتم استغلال السلطة لتحقيق المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة بين «شلة» المدراء الفاسدين المنتشرين في أكثر من جهاز متباعد، تجمع بينهم شبكة الفساد ومنافعه المختلفة التي يقتسمونها فرحين، وما دروا أنهم يقتسمون مالاً حراماً، ويمارسون ظلماً فادحاً حين يوظفون من لا يستحق من خيوط الفساد التي لها أول وليس لها آخر.. شبكة مخيفة.. أخطبوط.. «مافيا» تهدر موارد العالم النامي المحدودة، وتسرقه، وتصيب العديد من أفراده بالظلم والحقد والاحباط، حين يقدم من لا يستحق على من يستحق لمجرد (المحسوبية) وتنتشر الرشوة.. ويصعب الحصول على الحق.. هنا تنتشر المرارة في المجتمع.. والحقد.. والاحساس بالغبن والظلم.. وكل هذا نتيجة الفساد.. حين يوكل الأمر إلى غير أهله - حين تفقد القوة والأمانة - أو أحدهما - في المدراء يطل الفساد بوجهه المدمر المخيف.. وتتأخر مصالح الناس أو تتعطل.. وتنتقص في كل الأحوال، وهذا - كما قلنا - هو الداء العياء في العالم النامي كله، وليس شح الموارد فإن اليابان وسويسرا من أفقر بلاد الله بالموارد ولكن الإدارة هناك قوية أمينة كفء، والإدارة الصالحة تصنع العجب.. وقد قال هنري فورد مؤسس أكبر شركة سيارات ومخترع السيارة: «خذوا منا أموالنا ومصانعنا واتركوا لنا إدارتنا فنعيد كل شيء، نبني مصانع ونولِّد أموالاً، أما حين تؤخذ إدارتنا فسوف تخرب مصانعنا وتذهب أموالنا» وهذا كلام واضح صحيح وصريح، أدرك مثله غلام يرعى الغنم في البادية حين قال له الأصمعي يختبره:
- يا غلام، أتود أن لك ألف دينار وأنك أحمق؟
فقال الغلام على الفور:
- لا والله ياعم!
قال الأصمعي:
- ولماذا؟!
فقال الغلام:
- أخشى أن يجني عليَّ حمقي جناية تذهب بالمال ويبقى حمقي ملازماً لي!
صدق الغلام!
٭ ٭ ٭
تحيـاتـي
_________________________________________
إحفـر في مكـان واحــده .. إذا أردت الحصـول على المـاء