تستقبل الأمة ضيفًا كريمًا وموسمًا عظيمًا، جعله الله ميدانًا يتنافس فيه المتنافسون، ومضمارًا يتسابق فيه الصالحون، ومجالاً لتهذيب النفوس وتزكية القلوب، شهر رمضان شهر الصيام والقيام، وشهر القرآن والجود، قال تعالى
( شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [البقرة:185].
رمضان شهر كريم، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتسلسل فيه مردةُ الشياطين، وتضاعف الحسنات، وتغفر السيئات، ويعتق العباد من النيران، من صامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (( كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تبارك وتعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة ٌعند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولَخَلوفُ فِيهِ أطيب عند الله من ريح المسك )) متفق عليه.
في الصيام ـ عباد الله ـ تحقيقٌ للتقوى، وتربية على حسن الاستجابة لأوامر الله، وتعويد على الصبر والمجاهدة. وفي الصيام ـ عباد الله ـ حث على الرحمة ودعوة ٌإلى المواساة، وقد قيل ليوسف عليه السلام: أتجوع وأنت على خزائن الأرض؟! فقال: إني أخاف أن أشبع فأنسى الجائع. كيف لا ـ عباد الله ـ وشهر رمضان شهر الجود والعطاء والصدقة؟!
الصوم ـ عباد الله ـ فريضة من فرائض الإسلام، وحصنٌ حصينٌ من الشهوات وجُنّةٌ من النار، سلك الناس معه مسالك شتى وطرقًا متفرقةً، لا تجتمع أبدًا، فمن الناس من ينظر إلى رمضان على أنه حرمانٌ من اللذات والشهوات، يصوم عن الطعام والشراب على مضضٍ، وربما لا يتورع عن غيبةٍ ولا يتنزه عن نميمةٍ، وجهُه مُحمَر، وصدره ضيق، قد سَئِمَ ذكرَ رمضان، فهو أثقل الشهور عليه، يكابد فيه العناء من الجوع والمشقة من العطش، لا يَرى في رمضان إلا ِوثاقًا مشدودًا أمام رغباته وشهواته.
ومن الناس ـ عباد الله ـ من ينظر إلى رمضانَ على أنه موسمٌ للبطون، ومضمارٌ تتنافس فيه الموائدُ الزاخرة بصنوف الأطعمة وألوان الأشربة، فتراهم قبل دخول هلال رمضان يفزعون إلى الأسواق من كل فج عميق، يكيلون من الأطعمة ويتزودون من الكماليات، وكأن رمضانَ حفلةُ زفاف أو وليمة ُنجاح تُبسط فيها الموائدُ العريضة، وتنشر الأطعمة المتنوعة، ثم ترمى في النفايات، ناهيك عن جلب المأكولات من الأطعمة ومحلات الوجبات السريعة.
ومن الناس ـ عباد الله ـ من جعل رمضان فرصة سانحة للَّهو والسمر والسهر، ثم انطراح في الفراش كالموتى إلى الغروب، لا بصيام يتلذذون، ولا بقيام يعبدون، ليلهم ضياع، ونهارهم خسران، بين مجالس الغيبة والنميمة، وبين قنوات البث المباشر بخيماته الماجنة وفوازيره الضائعة، فسبحان الله! ماذا يستفيد هؤلاء من شهر الطاعة والمغفرة؟!
انظروا ـ عباد الله ـ إلى الشباب الضائعين التائهين الذين يعيشون في رمضان سبهللاً في الشوارع، يتصيدون عثرات الناس، ويتتبعون عوراتهم، ويؤذونهم في الطرق والممرات والمساجد، يعاكسون ويشاكسون، وفئام من الناس لا يعرفون الله إلا في رمضان، فكم ممن يدّعي الإسلام ويجاور مساجدَ الله لم يُرَ فيها مصلّيًا إلا في رمضان، وبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، وإن تعجب فعجب حال هؤلاء الذين فرقوا بين رب الشهور وهو واحد، وحكموا على أنفسهم بالنفاق، وأشهدوا الناس على سوء صنيعهم، إذا جاء رمضان رأيتَهم ركعًا سُجدًا خاشعين ضارعين، قد صفدت شياطينهم وطابت نفوسهم، فإذا انسلخ رمضان ولوا على أدبارهم نفورًا، ونكصوا على أعقابهم، وعادوا لما نُهوا عنه من المعاصي والآثام، حتى إن السنة لتمضي ولم يُرَ أحدُهم في المساجد مع المصلين،
( يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ )[النساء:142].
وخير الناس ـ عباد الله ـ من ينتظرون رمضان بفارغ الصبر، وتزداد فرحتهم بدخوله، فيشمرون عن ساعد الجد، ويجتهدون في الطاعة بشتى أنواعها، من صيام وقيام وتلاوة وتسبيح واستغفار وذكر وتصدق وإحسان.
وهكذا كان حال السلف، يستقبلون رمضان بالبكاء من خشية الله سبحانه وتعالى، يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويسألون الله قبوله منهم والعفو عنهم فيه والتجاوز عن سيئاتهم.
فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بحق رمضان كما أمر المولى عز وجل، واحذروا نهيه وسخطه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب.