بسم الله الرحمن الرحيم
فى رحاب قول الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا " سورة المائدة:3
" الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ "
وبعد
فإنه ليسرنا أن نرشح بكلمة حول هذه الآية الكريمة ، بمناسبة موسم الحج الذى لم يمر على انتهاء شعائره سوى بضعة أيام ، لأنها الآية التى نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم فى حجته المباركة " حجة الوداع " و" اليوم " المقصود فى الآية هو يوم عرفة فى حجة الوداع فى السنة العاشرة من الهجرة كما ثبت فى الصحيح من حديث طارق بن شهاب قال: " جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرأونها لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال ونصف آية قال: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات في يوم جمعة "
ولقد كانت هذه الآية الكريمة من أواخر القرآن نزولا حيث لم يكن بين نزولها وبين وفاته صلى الله عليه وسلم سوى واحد وثمانين يوما ، ويخطئ من يظن أنها آخر القرآن نزولا بإطلاق ، لأن الثابت أن آخر القرآن نزولا مطلقا هو قوله تعالى: " وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ " (البقرة:281) فقد كان بين نزولها وبين انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى تسع ليال0
وسبب الوقوع فى هذا الخطأ هى تلك السمة التى غلبت على الآية من الإعلام بإكمال الله لدينه فى ذلك اليوم الذى نزلت فيه وهو يوم عرفة أثناء حجته صلى الله عليه وسلم ، لكنْ ثمت فرق واضح بين إكمال نزول القرآن وبين إكمال الدين الذى نرجح أن المقصود به فى الآية الكريمة هو إعلاء راية الإسلام عالية خفاقة فوق كل الرايات وإظهار هذا الدين على الدين كله ولو كره الكافرون ، ولو كره المشركون ، فإنه فى هذا اليوم الذى نزلت فيه تأكد للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه واقعيا ما سبق أن كان وعدا من الله تعالى لهم من دخول البيت وإقامة الشعائر فيه وما يتبع ذلك من أداء النسك ، ذلك الوعد الذى تقرر فى القرآن الكريم فى مثل قوله تعالى: " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً " (الفتح:27) فهذا الوعد وإن كان قد سبق تحقيقه فى فتح مكة فى العام الثامن من الهجرة إلا أن أداء الحج قد زاده تحققا فقد أظهر الله تعالى فى ذلك اليوم دينه وحده فى بلده الحرام وفى بيته الحرام وأخفق ما سواه مما كان يعبد من دون الله ، فقد كان سابقا يحج المشركون البيت ، ويؤدون مناسك الحج فى ضوء ما ورثوه عن أسلافهم ، لكن فى هذا اليوم لم يشارك المسلمين فيه أحدٌ من المشركين حيث نظر النبي فلم ير إلا موحدا ولم ير مشركا فحمد الله على هذا الإنعام ، ولذلك قال الله تعالى فى نفس الآية التى نحن بصدد الحديث عنها ، وفى الفقرة التى سبقتها مباشرة قال: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون " ، ولذلك رجح شيخ المفسرين الطبرى أن المراد بقوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم " أن الله أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم بإفرادهم بالبلد الحرام وإجلائه عنه المشركين حتى حجه المسلمون وحدهم لا يخالطهم المشركون0
ويتجه البعض إلى أن المراد بإكمال الدين هو إتمام الشرائع حيث لم ينزل حلال ولا حرام بعد هذا اليوم ، لكن هذا الرأى يعارضه ما ثبت من نزول بعض الشرائع بعده ، ومن ذلك آية الربا والدين والكلالة فقد نزلت جميعها بعد ذلك0
وإذا مضينا مع هذا الرأى الثانى انبرى أمامنا سؤال وهو: هل كان الدين ناقصا قبل نزول هذه الآية أو بالأحرى هل كان الدين ناقصا قبل هذه الحجة ؟ وهل الذين ماتوا قبل ذلك ماتوا على دين ناقص؟
والجواب أن هذا ليس مقصود الآية ولا يمكن أن يفهم منها هذا ، بل المقصود أنه تعالى وفق المؤمنين للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره ، فحجوا فاكتمل هذا الدين أداء لأركانه وقياما بفرائضه ، خاصة أن الحج قد فرض قبل هذا فى السنة السادسة أو التاسعة على خلاف فى هذا ، إذن فالاكتمال مقصود به اكتمال أداء للشرائع ، أما أصل الإيمان فهو كامل منذ بدء نزول الوحى ، إذن فإن من ماتوا فى بداية البعثة قد ماتوا على دين كامل وإيمان كامل ، أما كون الشرائع لم تنزل دفعة واحدة لتكون تامة منذ البداية ، فليس فى ذلك غضاضة لأن الله عز وجل قد راعى أحوال البشر وطبائعهم ففرض عليهم الفرائض وشرّع لهم الشرائع تدريجا ، وفى ذلك للإسلام كل الفضل ، ومن ثم قال ابن عباس في قوله تعالى : " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم " { الفتح:4 } قال: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة ، فلما صدقوا بها،زادهم الصيام ، فلما صدقوا به زادهم الزكاة ، فلما صدقوا بها زادهم الحج 0000ثم أكمل لهم دينهم فقال: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا "
ولنا أن نصوِّر ذلك برجل يبلغه الله مائة سنة فيقال: أكمل الله عمره ولا يترتب على ذلك أن يقال: إنه حين كان ابن ستين كان ناقصا نقص قصور0
هذا هو إكمال الدين وأما إتمام النعمة ففى تصورى أنه مرتبط بسابقه ولاحقه ، فلا معنى لبتر هذه الفقرة عن جارتيها ، وعلى ذلك يكون إتمام النعمة مرادا به نعمة الإسلام فكفى بها نعمة ، حيث إن من خلالها يعيش المرء فى معية الله يتنعم بنعيم القرب من الله ، ويرتوى من بحار الفضل الإلهى ، وتلك هى النعمة الحقيقية ، وفى ذلك يقول واحد ممن ذاقوا لذة القرب من الله: إننا لفى نعمة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف0 فقد جربت السعادة فى المال فما حصلت ، وفى المنصب فما وجدت ، وفى الحسب والنسب فافتقدت ، وبقى سبب واحد يصل الإنسان براحة البال والسعادة المطلقة ، وهو باب القرب من الله تعالى0
ولما كان الإسلام هو الدين الحق فقد ارتضاه الله تعالى دينا لأحبابه ، وميزانا يميز به الطيب من الخبيث ، وسببا يحقق للعبد رضا الله والفوز بالجنات0 وإن من لوازم التحلى بالإسلام والرضا به دينا الرضا بالله تعالى ربا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، هنا يسكن الإيمانُ القلبَ ويعمره بحب الله وطاعته ، فتصبح الطاعةُ همَّه ، حيث يسخر المؤمن وقته وجهده وكل ما يملك فى خدمة الدين وفيما يرضى الله ، فهذا وحده هو الذى يحقق السعادة ، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: " ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد- صلى الله عليه وسلم –رسولا " أخرجه مسلم0
ملابسات اكتنفت نزول الآية الكريمة:
حينما نزلت هذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتطيا ناقته التى بركت من ثقل ما تحمله هذه الآية تقول أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله تلك الحجة فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل على الراحلة فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن فبركت 0
وهكذا كانت تفعل الناقة كلما نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فوقها فقد أخرج ابن جرير الطبرى عن هشام بن عروة عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها( ) فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه " وفى المسند عن عائشة رضي الله عنها قالت: " إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها " وذلك أن لكلام الله عز وجل ثقلا حال نزول جبريل عليه السلام به، حتى إن السيدة عائشة رضي الله عنها لتقول – فى وصف نزول الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم - : " ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا " ويصدق هذا قول الله تبارك وتعالى: " إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا " ( المزمل: 5 ) ولأنه كذلك فإنه لا يتحمله كما يقول الحسين بن الفضل: إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد0
حوار بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين عمر رضى الله عنه بعد نزول الآية :
تقول الروايات إنه " لما نزلت { اليوم أكملت لكم دينكم } بكى عمر فقال له النبي ما يبكيك ؟ قال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال: صدقت "
هل ترى معى أيها القارئ الكريم ما أبكى عمرَ ، إنه همُّ الإسلام 0 فما الذى يبكينا نحن؟ خسارة فى تجارة ، أو هزيمة فى مباراة كرة قدم لنا أو للنادى الذى نقوم بتشجيعه أو منصب دنيوى فقدناه 000إلخ الأسباب الدنيوية التى تأخذ منا كل حواسنا بل عقولنا وقلوبنا أيضا0 إن عمر لم يبك لسبب من أسباب الدنيا لكنه يبكى لأنه يخشى على الإسلام من المسلمين فإنهم سوف يضيعون شعائره شعيرة بعد أخرى ، وهكذا ينقلنا عمر رضى الله عنه إلى قضية التمام والنقصان فلكل شئ إذا ما تم نقصان كما قيل ، وهذا هو الذى حدث بالفعل فأين نحن اليوم من الإسلام ؟ ما النسبة التى يقوم المسلمون بأدائها من أحكام الإسلام وقواعده وأنظمته ؟ أعتقد أن الإجابة مخجلة إلى حد بعيد0
ويبدو أن عمر رضى الله عنه كان مهتما بهذه القضية أيما اهتمام حيث كان يدور حديثه عنها فى كثير من مجالسه لأنه يحمل للإسلام همًّا بل هموما ، فعن علقمة بن عبدالله المزني قال حدثني فلان أنه شهد عمر بن الخطاب يقول لرجل من جلسائه: يا فلان كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعت الاسلام ؟ فقال سمعته يقول: " إن الإسلام بدأ جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سدسيا ثم بازلا " فقال عمر وما بعد البزول( ) إلا النقصان0 إن بكاء عمر الملهم ليذكرنا بحديث للنبى صلى الله عليه وسلم الذى قال فيه: " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة " والله حتى الصلاة ما أكثر مضيِّعيها ممن يحسبون على الإسلام فى هذه الأيام !! وحديث آخر يتنبأ بواقعنا المرير أكثرنا يحفظه ولا يتدبره وهو حديث " إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء " هذه هى قضية التمام والنقصان التى بنى عليها عمر رضى الله عنه موقفه0
ويرحم الله أبا العلاء حين قال:
إذا كنت تبغى العز فابغ توسطا فعند التناهى يقصر المتطاول
توقى البدور النقص وهى أهلة ويدركها النقصان وهى كوامل
وماذا كانت نتيجة ابتعادنا عن منهاج ربنا ؟ الأمر كما ترى ويرى كل بصير ، تردٍّ من ضعف إلى ضعف ، ومن مهانة إلى مهانة ، ومن ذل إلى ذل والله وحده يعلم عاقبة ذلك كله0
وأمر آخر يلوح لى يمكننا أن نطلق عليه أنه المعنى الكامن فى موقف عمر وبكائه يفرضه علينا ما معروف عنه رضى الله عنه من الفراسة الوقادة التى وصلت به إلى مرتبة الإلهام الحقيقى وهو أنه رضى الله عنه قد قرأ ما وراء النص فعلم أن هذه الآية تخبر بقرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن مهمته صلى الله عليه وسلم التى ابتعثه الله لأجلها قد أديت ، حيث كمل الدين ، وبُلِّغت الرسالة ، فماذا بعد هذا إلا أن ينتقل الحبيب إلى حبيبه ؟! تماما كما فهم ابن عباس رضى الله عنهما أن سورة النصر تنعى أجله صلى الله عليه وسلم0
هذا وإن أهم درس يمكن لنا أن نتعلمه من هذه الآية الكريمة هو أن نحرص على الاتباع الكامل لمنهاج الخالق وأن نحذر كل ما يضر بعلاقتنا مع ربنا وخالقنا "
والله الهادى إلى سواء السبيل