كنت قبل حوالي ثلاثين عاماً في أحد الأرياف والقرى في مصر أتنقل مع مرافقي بين المزارع والأزقة ونشرب من لبن الجواميس ونأكل الذرة ونلعق عسل النحل الصافي و عندما نكمل ذلك نعود في المساء إلى المدينة حيث الزحام والأدخنة وأبواق السيارات لكننا كنا مضطرين لذلك إذ أن الأرياف لايوجد فيها مكان مناسب للمبيت إضافةً إلى أنها لاتخلوا من المنغصات في الليل كالبعوض وغيره .
الشاهد من حديثي أنه بالرغم من تلك المناظر البدائية التي نشاهدها صباح كل يوم في هذه الأرياف المطلة على نهر النيل العريق إلا أنه لفت نظري شيء لم أكد أصدق وجوده وهي صناديق البريد الموجودة على جدران منازل الأرياف بل أحياناً على أعمدة الإنارة وربما جذع شجرة عتيق لكن الصندوق يحمل رقماً متسلسلاً ورموزاً واضحة تجعل من السهل على ساعي البريد ببزته المميزة أن يتنقل بين الأرياف بكل هدوء وسلاسة ، بل أنه من استمتاعه بعمله تسمعه يلقي بعض الطرائف وهو يسير في الطريق ثم يغادر المكان وكأنه صديق للجميع ، حتى أن بعض العائلات إذا صادف أنهم على مقربة من الصندوق حينما يضع الرسائل الجديدة فيه فإنهم يعمدون إلى إكرامه بأي شيء تقع عليه أيديهم من مأكول أو مشروب .
المهم في الموضوع كله أنني قلت لمحدثي متى نصل لهذا المستوى من الدقة في وضوح العناوين بالرغم من تداخل تلك الأرياف وتشابهها حتى أن المقيم فيها طويلاً قد يتيه أحياناً ، وبالرغم من ذلك تصل الرسالة البريدية إلى هدفها دون أن يسأل ساعي البريد أي إنسان في طريقه ؟ بل وأضفت سؤالاً آخر وهو متى تستطيع الجهات الخدمية من أجهزة الدفاع المدني أو الإسعاف أ و الشرطة أو حتى الكهرباء الوصول إلى هدفها من خلال العنوان الواضح دون الحاجة والسؤال عن مثلاً هل مكانكم قرب محطة بنزين فلان ؟ أو مخبز التميز الخاص بعلان ؟ أو عند مطعم فلان وغيره من الأسئلة التي لاتنتهي إلا وقد جاءت النار على كل محتويات المكان قبل وصول من يطفئها أو مات الميت دون الوصول إلى مكانه ، فابتسم صديقي ابتسامة صفراء تدل على أن هذا ضرب من المستحيل وانشغلت أنا عن ذلك بشيء آخر .
المناسبة لهذا الموضوع هي تلك التطورات المتلاحقة في جهاز البريد بقيادة ربانه الماهر والمتخصص الدكتور /محمد بنتن والذي يسير بتلك التطورات إلى بر الأمان وسط هذه الفوضى المتلاطمة دون أن يدخل مع أحد في جدالات وصدامات بل إن المبدأ الذي يسير عليه هو أن تبرز الأفعال وليست الأقوال حتى يحقق الهدف الذي يطمح إليه ، وهذا بخلاف الأجهزة الخدمية الأخرى كالإسعاف والدفاع المدني والشرطة والكهرباء فلازالت تغط في سبات عميق وتسير على أسلوب المخبز والمطعم والمسجد حتى يأذن الله أن تتطور لكن جهاز البريد – وهو شهادة لله – يشق طريقه بكل هدوء نحو العالمية حتى أصبح واقعاً نحسه أمام أعيننا ونلمسه بأيدينا كل يوم من خلال تلك اللوحات الخضراء الجميلة المستطيلة التي بدأت تزين جدران مدينتي الغالية ( بريدة ) ، وقد علمت من أحد المختصين بالبريد أن صناديق واصل الملصقة على جدران المنازل مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمختصين عن طريق الأقمار الصناعية والإحداثيات وهذا ماجعل سؤالي يتلاشى بعد تلك الإجابة الرائعة حينما استغربت من عدم تسلسل أرقام تلك الصناديق وهي متجاورة أو متقابلة ، وهذا ما يجعلني أتفاءل كثيراً في مثل هذه الخطوة التي نرجوا أن تتبعها خطوات لكن المصيبة العظمى أننا بتلك التطورات قد استفدنا من قمة التكنولوجيا الحديثة فقط لكننا لم نستطع تطوير بعض العقول التي تستفيد من هذه الخدمة والدليل على ذلك تلك الأعداد الكبيرة من تلك الصناديق التي تعرضت للاعتداء الجماعي بل وأحياناً تم القضاء عليها عن آخرها في عدة مدن لا لسبب إلا قلة في الوعي والثقافة لدى بعض – أقول بعض وليس كل _من وضعت له هذه الخدمة , وهذا ما يجعلني أهمس في أذن الدكتور محمد بنتن وقائد حملة التطوير والإصلاح وأؤكد له بأن عليه أن يقتطع جزء من حملته التطويرية ليستهدف تطوير العقول أولا فنحن بأمس الحاجة إلى ذلك !!
همســــــــة
يصلني عبر الإيميل أحيانا وعبر الاتصال المباشر أحيانا أخرى رسائل تناقش قضية أزلية أرى أنها جديرة بالطرح لأهميتها ولأنها تمس شريحة كبيرة من شرائح المجتمع وهي طلب تثبيت الموظفين على وظائف لاتناسب تأهيلهم ممن تم توظيفهم بعد قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ( حفظه الله ) الإنساني بتثبيت كل موظف يشغل وظيفة لاتناسب تأهيله على وظيفة مناسبة , وكان نص القرار يؤكد على أن ذلك يشمل فقط من تم تعيينهم قبل عام 1426هـ ، ليكون من تم تعيينه بعد هذا التاريخ لايشمله التثبيت فأصبح عدد لابأس به من هؤلاء في حيرة من أمره مما جعل لهم رجاء خاص بأن يشملهم هذا القرار خصوصاً وأن هذا القرار ينص على أن من تم تثبيته على وطيفة جديدة سيتم إلغاء وظيفته السابقة ولن يستفيد منها احد ، وهذا مايجعل الأمر لن يكون صعباً على وزارة الخدمة المدنية ولن تخسر وظائف جديدة بل هي وظائف مكملة .
أسعد الله أوقاتكم ،،،
عبد الرحمن بن محمد الفرّاج
الإيميل aalfrraj@hotmail.com
http://www.burnews.com/articles.php?action=show&id=3710