[في حاجة إلى تنظيمٍ نقابي, أو خلفية إيديولوجية, ودعم سياسي، كي تصرخَ مُحتجاً على ما تعانيه من فقر, وعوز, وضيق ذات اليد ".. تبدو هذه القراءة هي الأقربُ للصحة لتفسير سلسة الإضرابات, والاعتصامات العمالية، التي شهِدتها مصر خلال العامين الماضيين، وامتدت على طول البلاد وعرضِها، فالجميع– تقريباً – يتفقون على أن تحركات العمال كانت عفوية, ومتعلقة بمطالب معيشية, ووظيفية، لكنَّ الأمر ربما يحتاج إلى مزيدٍ من التعمُّق لفهمِ: لماذا ارتفع صوت العمال الآن على ما يعانونه من أوضاع متردية، مع أن قطار الخصخصة انطلق قبل نحو (15) عاماً، دهس خلالها مئات الآلاف من العمال تحت مُسمَّى "المعاش المبكر"، فيما بقى الآخرون يعملون في مصانع متهالكة, ويتقاضون رواتبَ يعودُ عمرُها إلى عمر ماكينات مصانِعهم التي عفا عليها الزمن.
ولعلَّ من أول المؤشرات التي تحتاج إلى مزيدٍ من التعمُّق تلك المفارقة المتمثلة في أن الاعتصامات التي نفذها أكثر من (23) ألفاً من عمال مصانع شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج - والتي تعدُّ الأكبر منذُ احتجاجات ١٨, و١٩ يناير ١٩٧٧ - اندلعت احتجاجاً على تخفيف مكافأة الأرباح السنوية من راتب شهرين إلى ثلاثة أسابيع فقط، وهو ما يعادل (18) دولاراً لكلِّ عامل، بينما جاءت اعتصامات عمال شركات الأسمنت التي تمَّ بيعُها لشركاتٍ أجنبية؛ للمطالبة بنسبتهم القانونية في الأرباح, والبالغة 10% من إجمالي أرباحٍ تجاوزت في بعض الشركات (700) مليون جنيه .. وعلى الرغمَ من هذا الفارق الشاسع في حجم المستحقات التي يطالب بها كلُّ فريق، إلاّ أن صوت الاحتجاج كان متقارباً في شدَّتِه كما أن نبرة التحدي كانت واضحةً لدى الطرفين.
إصرار وتحدٍّ
ومن الأمور اللافتة للنظر أيضاً أن موجة الاحتجاجات العمالية امتدت لتشملَ العديدَ من شركات القطاع الخاص, وقطاع الأعمال على حدٍّ سواء، و
وفقاً لتقديرات (مركز الأرض) لحقوق الإنسان فقد بلغت عدد الإضرابات, والاعتصامات العمالية خلالَ العام الماضي (222) احتجاجاً، تنوَّعت ما ب
ين (47) إضراباً و(79) اعتصاماً، (24) تظاهرة، و(72) تجمهراً. وجاءت احتجاجات عمال شركات قطاع الأعمال في المقدمة، يليها القطاع الحكومي، فالقطاع الخاص. أما أسباب الاحتجاجات التي نفَّذها عمالُ شركاتِ قطاع الأعمال، فقد جاءت بسبب عدم صرفِ المستحقات المالية في المقدمة، يلي ذلك تعسُّفُ جهات الإدارة، ثُمَّ تصفية وخصخصة وبيع المصانع, والشركات، وأخيراً مشكلة عدم تثبيت العمالة المؤقتة.
ومما يلفت النظر كذلك إصرارُ العمال, وتمسُّكهم بمطالبِهم, ورفضِهم أيَّ وعودٍ حكومية, أو نقابية فضفاضة؛ استناداً إلى خبرتِهم السيئة في هذا المجال، وبالفعل تحقّق للعمال معظم ما طالبوا به، الأمر الذي شجَّع زملاءهم في أماكن أخرى على اتباع نفس الطريق، وهو ما حدث بالفعل بانتقال اعتصامات المحلة الكبرى إلى مصانع النسيج في كفر الدوار, ومنها إلى مصنع شبين الكوم للغزل والنسيج، وربما يكون هذا الإصرار الذي تقف وراءه شحنات هائلة من الغضب والشعور بالظلم، هو العامل الرئيس وراء امتناع الحكومة عن استخدام قبضتها الأمنية الغليظة لقمع العمال وفضِّ الاحتجاجات.
ويُعَدُّ التعامل الأمني الهادئ مع الاحتجاجات العمالية، ولجوء الحكومة المصرية, والأجهزة الأمنية إلى أسلوب الحوار, والتفاوض مع المحتجين، بدلاً من القمع ,والقوة، من الأمور التي تحتاج كذلك إلى تفسير، خاصّةً وأن هذا الأسلوب الهادئ جاء متزامناً مع عودة قوات الأمن لاستخدام سياسة العصا الغليظة مع الاحتجاجات السياسية لنشطاء المعارضة، وكان لافتاً أن سياسة ضبط النفس بقيت صامدة، على الرغمَ من امتداد الاحتجاجات لتشملَ قطاعاتٍ استراتيجية كما حدث في الإضرابات التحذيرية، التي نظَّمها سائقو القطارات، وأدَّت إلى شلِّ حركة السكك الحديدية, وتكدُّس آلاف المسافرين لعدَّة ساعات.