الكنافة أكلة شامية وهي عبارة عن خيوط من العجين السائل يتم نشره بواسطة وعاء بعدد كبير من الفتحات الصغيرة اسفل هذا الوعاء عل صاج من الحديد يوضع مقلوبا على نار هادئة .. يتم بعدها إعداد الخطوات لهذه الأكلة حيث يتفنن البعض في حشو الطبقة الوسطى بالجبن البلدي أو الفستق أو اللوز .. وتنتهي العملية بإغراقها بسائل (الشيره) وهو عبارة عن سكر من ماء وقطرات من الليمون وحبات ( الهيل ) تترك على النار حتى تتحول إلى سائل لزج متماسك .. وليس لنا في موضوع الكنافة إلا صحنها الذي عرفناه لسنوات عديدة قد مضت .. ذلك الصحن المستدير والذي صنع من الألمنيوم قبل أن نعرف مادته .. حين كانت سيدات مجتمع يصنعن الكنافة في المناسبات .
استمرت هذه الأكلة على رأس مجلس الطعام قبل أن نعرف مرض السكر الذي أصاب مجموعة من المناصرين على بقاء واستمرار صحن الكنافة , ولعل الأسباب ورائها أسباب .. وليس لنا من صحن الكنافة عدا مساحته الخالية متقاعدا عن استعراضاته الأخرى بعد أن كان يتزين هذا الصحن بقطعة من القماش تعكس ذوق أم العروس التي ترفض أن يتجول أحد غيرها في الصباح الباكر من يوم (الصباحية ) وهو اليوم الذي تعارف المجتمع المديني ( المدينة المنورة ) على تسميته هذه .. وتتحول أم العروس بهذا الصحن ليس لتقديم الكنافة إنما لتري الحاضرات اللاتي بقين بعد انصراف العروس ليشاهدن ماذا جاء للعروس من هدايا ذهبية من الأقارب وأهل الزوج .. والعريس الذي غادر المكان مع زوجته .
وتواصل الأم صورة السيدة التي تعرض البضائع بالأسلوب القديم لتعيد الشرح مرة و أخرى وعشرات , بل يتعدى العرض إلى عدد تصاب به أم العروس بالتهاب الحنجرة عندما كانت حناجرنا قوية وقلما تصاب بسرعة الأمراض .. وبقي صحن الكنافة في صالة للعرض والاستعراض .. والتباهي بين الحاضرات .. والتفاخر بالأسعار والأشكال فهذا من والد العريس ..وأخت العريس وأمه وعمته وخالته وأيضا قريبته التي حضرت من خارج الموقع عندما كان السفر الداخلي جزءا من الاستقبال الكبير للقادمين ..إنه صحن الكنافة الذي يكاد أن ينطق مرة بالحلوى الكنافة ومرة أخرى بالأشكال الذهبية ذات القيمة المادية .
يتعايش معنا صحن الكنافة منذ سنوات عديدة دون أن يصاب بأمراض السكر وهو الذي حمل السكر وقيمة السكر وجيوب الذين يتعاطون السكر .. وتنتهي مراسم الاستعراض من صحن الكنافة بتناول النساء وجبة ( التعتيمة ) ويبدو من الاسم سبب هذه التسمية أن لحظات الليل على وشك الرحيل لما بعد الفجر استعدادا لاستقبال الفلق .. وتحتوى وجبه ( التعتيمة) على الجبن والزيتون والنشويات ( الزلابية ) وأيضا السكر المعقود (الشيرة) لأكلات أخري شامية .. وربما تجد أيضا بين تنوع الوجبة شقيقا لصحن الكنافة يحمل الكنافة بعد أن تم الاختيار على شقيقه للاستعراض الذهبي نظرا لجمال شكله وفترته القصيرة على النار في صنع الكنافة .. يغادر النساء لتكتمل حلقة صحن الكنافة بين معجبات من هدايا (الصباحية ) وأخريات شامتات لأن ما قدمته أم العروس لا يتناسب مع استعراضها وسط المجتمع وقبل الزواج .. واستمرت أرجوحة الحاقدة والحاسدة والتي اغتاظت فتحولت عندها الحقائق إلى الرصاصة المرتدة .. وتجد القليلات اللاتي يعجبهن ما كان فوق صحن الكنافة دون أن تتواجد الكنافة حين العرض .
وتمضى أم العروس حاملة مجموعة الذهب إلى ابتنها التي غادرت قبل لحظات مع عرسها ويتوجب على الأم أو إحدى القريبات جدا من الأسرة والمتواجدة ذلك الزمان جوار غرفة العروس , فذاك تقليد أساسي لمواقف اجتماعية متأصلة في زمان الماضي .. وهكذا يعود الذهب إلى عروسه بينما يعود صحن الكنافة إلى المطبخ لأن نار الفحم الهادئة ذا اللون الذهبي تنتظره لمناسبة أخرى من الكنافة .
إنها ذكريات الماضي التي امتدت بالنسيان لغيب صحن الكنافة في استبدال التكلفة المالية التي تتلمسها في الشارع والمنزل .. واللبس والملبوسات والزخارف في التقنية الحديثة والاتصالات الاستعراضية الضارة بعد الحياة الحلوة داخل الحلوى .. ماذا بقي لنا من أمراض جسدية لا نحسن الوقاية منها .ز وقد كانت أمراض نفسية طفيفة .. باتت اليوم في تحدي مع التجار الأطباء في المضادات الحيوية .. وقوتها وهلاكها واستهلاكها .. ناهيك عن الصداقة الحميمة التي تربط الطبيب بالمندوب المتجول الذي يدخل للطبيب في المستشفيات الخاصة في وقت ينتظر المرضي صرف العلاج الجديد , وتبقي العمولة محفوظة .. أعيدوا لنا صحن الكنافة وخذوا من أهازيج الحياة ما ترغبون .. أعيدوا الأطباء إلى مواقعهم فقد زادت الأمراض من الإشعاعات المنتشرة في أجواء الشارع والمنزل وكثرة الشركات في صنع المضادات .
تلك مصائب يتعرض لها حتى العازفين عن الصحون الجوية والعرض المتحرك .. وشتان بين صحن الماضي الممتلئ بالكنافة المنزلية وبين صحن الحاضر بالكلام الفارغ والعمولة المخفية ..وتبقي صحون الكنافة شاكية من كثرة العرض وقلة الطلب .. فيا طيبة صحن الكنافة أنتهي
طلال عبدالمحسن النزهة
من كبار الموظفين الذين كرمتهم السعوديه