نسميه في السعودية «حساب المواطن»، وهو الأداة الجديدة لتقديم الدعم الحكومي الموجه. الموجة الجديدة عالمياً لتقديم الدعم لها اسم آخر، فالاسم الاقتصادي العام للبرنامج هو "الدخل الأساسي الشامل» ( Universal Basic Income ) ماذا يعني "الدخل الأساسي الشامل"؟ يعني أن يكون للمواطن دخل أساسي، أي أن يحصل على دخل (جزئي أو كلي) باعتبار أنه مواطن لدولة قادرة.
ولهذا الدخل الأساسي تفريعات أكثر من أن تحصى في هذا الحيز، فأدبيات الاقتصاد تعج بنقاشات محتدمة عنه، استمرت قروناً وليس عقوداً قصيرة كما قد يظن البعض. وجذور أدبيات هذا «الدخل الأساسي الشامل» هي اجتماعية بالأساس، وعلى صلة وثيقة بأدبيات الاقتصاد السياسي، ولذا نجد أن التسميات والمصطلحات ذات الصلة تتبدل وتتطور حسب ما هو سائد على الساحتين الأكاديمية والسياسية، فالفكرة تلقبت وتطورت عبر عقودٍ مديدة.
لكن ما مبرر أن تطلق - أي حكومة - برنامجاً لـ «الدخل الأساسي الشامل»؟ لأسباب عديدة تتفاوت تبعاً للتوجه الاجتماعي - الاقتصادي للحكومة، فقد يكون الدافع هو خفض الفقر في الحالات الأقل اندفاعاً، ورفع كفاءة توزيع الدخل في حالات أخرى. كما تتنوع مصادر تمويل هذا البرنامج تبعاً لعمق التغيير الاجتماعي المستهدف، فقد يكون صورة أخرى من الضمان الاجتماعي وهذا مشمول ضمن الانفاق الحكومي أساساً، أو وسيلة لتوزيع عوائد الحكومة الشركات التي تمتلكها على المواطنين من خلال برنامج «الدخل الأساسي الشامل»، وفي الحالات الأكثر حماساً فقد تفرض ضرائب دخل عالية لإعادة ضخها - أو جزء منها- لتمويل برنامج الدخل الأساسي الشامل.
وعلى السطح يبرز تساؤل: لما توزع الحكومة - أي حكومة- المال على المواطنين من خلال «الدخل الأساسي الشامل» وهي في الأساس جمعت المال من ضرائب جَبَتّها من السكان؟! الإجابة أن مصدر التمويل عادة لبرنامج «الدخل الأساسي الشامل» ليست الضرائب بل الأرباح المحققة من الشركات (والأعمال التجارية) التابعة للحكومة، رغم وجود حالات على يمين هذا الأسلوب وعلى يساره، تتفاوت ما بين الضمان الاجتماعي للفقراء إلى ضرائب إعادة توزيع الدخل.
فكرة «حساب المواطن» جديدة علينا، فهي تقوم على تقديم الدعم مباشرة ونقداً لمن يستحقه، في حين أن الطريقة التقليدية هي بطاقات تموينية كما هو الحال في العديد من الدول بما فيها دول عربية كمصر والكويت، على سبيل المثال لا الحصر. إذاً، نحن أمام ممارسة رائدة، وعلينا السعي لفهمها بما يوفر أرضية وقناعة لتكوين رأي معتبر، حتى يكون النقد بناءً لتطوير وتحسين الممارسة، وإن كانت قناعة فتكون مرتكزة على وعيٍ وفِطنة.
في الستينيات من القرن السابق طرح الاقتصادي الشهير ملتون فريدمان ما أسماه «الضريبة السلبية»، وتقوم بتوزيع مخصصات نقدية بانتظام بغض النظر عما إذا كان الشخص يعمل أم لا، وإن كان فقيراً أم لا، وكان الرئيس ريتشارد نيكسون متحمساً لهذا المقترح، لكنه لم يحظ بقبول مجلس الشيوخ آنئذ، وكان ذلك بناءً على تجارب أجريت في ست مدن أمريكية من خلال توزيع مخصصات نقدية، ورغم أن النتائج كانت مشجعة إلا أن المقترح سقط نتيجة لتطاحن الساسة في واشنطن.
وحالياً، عزز التقدم التقني طرح «الدخل الأساسي الشامل» على مستويين؛ الأول: تقنيات البيانات الضخمة بما يمكن الحكومات من تحليل بيانات ملايين المواطنين، وتوثيق بياناتهم إلكترونياً، وإيداع المبالغ النقدية في حساباتهم النقدية مباشرة، بدون أي تدخل إنساني، بما يخفف الفساد والأخطاء المقصودة أو غير المقصودة ويقلص تكلفة إدارة البرنامج وتنفيذه. أما المستوى الثاني فهو أن التقنية تعيد هيكلة الاقتصاد وأنشطته بما في ذلك إحلال الآلة محل البشر بما سيعني إعادة هيكلة سوق العمل كذلك، وهذا بدوره سيؤثر على معدل البطالة، وتوليد الوظائف، ومستوى دخل الوظائف التقليدية، ودخول وظائف جديدة تتطلب مهارات غير تقليدية.
وفي حين أن برامج الدعم والتموين الشائعة في الكثير من الدول، بما فيها الدول المتقدمة والنامية والعربية، تتطلب جهازاً ضخماً لإدارة النواحي اللوجستية، بما نلاحظ في مصر مثلاً أو الكويت، فإن «الدخل الأساسي الشامل» يجعل النقد (الكاش) يحل محل كل تلك البرامج لدعم الفقراء ولتوفير السلع التموينية. وسعودياً، سيعلن في هذا اليوم عن تفاصيل "حساب المواطن"، وستكون بداية مرحلة مختلفة في إدارة وتقديم الدعم الحكومي، الذي عانىلعقود من كونه غير موجهاً ومُكلفاً.
الاقتصادية / د.بوحليقة