عبدالناصر عبدالعال الحياة - 15/07/08//
في مشهد تكرّر كثيراً، تقتحم تكنولوجيا رقمية مقتبسة من المجال العسكري عالم المعلوماتية والاتصالات، حاملة معها الكثير من التغيرات الجذرية. واستطراداً، يمكن ملاحظة أن مجموعة من التقنيات التي انتقلت من المجال العسكري الى الاستخدام المدني أحدثت تغيرات مهمة في المجتمعات المعاصرة، مثل شبكة الانترنت و«النظام الشامل لتحديد المواقع» («جي بي أس» GPS) و «الفأرة الالكترونية» («ماوس» Mouse) وتقنية المحاكاة الافتراضية Virtual Reality وغيرها.
وفي سياق مُشابه، انتقلت من المجال العسكري الى المدني تقنية «التعرّف على الهوية بواسطة موجات الراديو». وتُعرف باسمها المختصر «رفيد» RFID، الذي يختصر عبارةRadio Frequencey for Identification. وتُستخدم في الرادار لتمييز الطائرات الصديقة من العدوّة. وترتكز الى قياس موجات راديو متناهية في الصغر، تأتي من الطائرات وتحمل معلومات مُحدّدة عنها. وأُدخلت تلك التقنية في شكل مُبسّط الى أنواع البضائع، بحيث اتّخذت شكل شريط يحمل رقماً مُحدّداً للتعريف بتلك البضائع. ومثلاً، ثمة تقنية مُشابهة اسمها «باركود» مألوفة في «السوبرماركت» و «المولات» منذ مدّة ليست بالقصيرة. وكذلك يستعمل العلماء بطاقات «رفيد» للتعرّف الى الحيوانات التي يدرسونها، ويتابعونها أثناء تنقلاتها.
في أغلب الأحوال، تتألف بطاقة «رفيد» من جزءين مركّبين على «شريحة» دقيقة. يحمل الجزء الأول المعلومات، ويتولى القسم الثاني بث موجة راديو متناهية الصغر، كما يستطيع تلقي موجات مُحدّدة. وتصل إشارة بعض البطاقات إلى مئات الأمتار، وقد تدوم بطارياتها عشر سنوات. وتتسع ذاكرتها لـ64 كيلو بايت. ومثلاً، طوّرت شركة «هيتاتشي» اليابانية شرائح «رفيد» يصل حجمها الى 64 مرة أصغر من الحجم المعتاد الذي يكون على هيئة مربع ضلعه 0.4 ملليمتر. ومن المستطاع قراءة 40 بطاقة «رفيد» في الثانية. كما يمكن إعادة الكتابة في ذاكرة البطاقة واستعمالها مئة ألف مرة. ومن المستطاع استخدام بطاقات «رفيد» في الظروف البيئية الصعبة مثل الأمطار والغبار والطين والزيوت، ما يفتح أمامها آفاقاً واسعة.
تحالف جامعات
وفي الآونة الأخيرة، تحالفت 103 جامعات وشركات عالمية لإنشاء «مركز لتكنولوجيا التعرف على الهوية أوتوماتيكياً» The Auto-ID Center، يستضيفه «معهد ماساشوستس للتقنية».
ويشمل التحالف جامعات كامبردج (انكلترا) وأديلايد (أستراليا) و «كييو» (اليابان) و «فودان» (الصين) و «سانت جالن» (سويسرا)، وشركات «كوكاكولا» و «وول مارت» و «تارجت» و «بيبسيكو» و «يو بي إس» و «بروكتر أند غامبل» وغيرها. ويهدف المركز الى تطوير مساعدة هذه التقنية بحيث توضع في الكومبيوتر وتعطيه القدرة على التعرّف الى الأشياء التي يتعامل معها. ومن المتوقع أن تؤدي تقنية التعرّف المؤتمت الى الهوية دوراً كبيراً في الحياة اليومية، خصوصاً عندما توضع في الروبوت والحواسيب الفائقة الصغر والبطاقات الذكية ووسائل التعرف الى الصوت وبصمتي العين واليد. ويشير البعض الى ذلك باسم «عصر ما بعد الكومبيوتر» post computer Era حيث تحلّ أدوات ذكية معتمدة على تقنية «رفيد» محل الكومبيوتر. وربما تواصلت مع بعضها بعضاً أيضاً، فتُكوّن شبكة ذكية تستطيع التفاعل مع العالم الافتراضي، لدرجة تُصعّب على الإنسان السيطرة عليها. ويُسمى ذلك «انترنت الأشياء» Internet of Things الذي قد يحلّ محل انترنت الحواسيب.
وفي السياق عينه، عُقد مؤتمر علمي في مدينة «زيوريخ» الألمانية في الربيع الفائت لمناقشة تطورات هذه التقنية وطُرُق توظيفها في التنافس والابتكار.
التجارة المحمولة
يتزايد استخدام هذه التقنية في التجارة والخدمات مثل البيع بالتجزئة وإدارة المخازن والمستودعات والتعرف الى مصدر السلع وتاريخ انتهاء صلاحيتها. ومن المتوقع أن يمثل حجم التعاملات التجارية التى تعتمد على هذه التكنولوجيا 105 تريليونات دولار، في مستقبل قريب. وتستخدم أيضاً في خدمة البريد (كالحال في السعودية)، وتداول الكتب وفحص جوازات السفر وأشياء أخرى. كما أستخدمت مطارات «دبي» و «هيثرو» و «هونغ كونغ» و «لاس فيغاس» هذه التقنية في التعامل مع حقائب الركاب. واستخدمها كذلك الجيش العراقي لمنع تزوير هوية رجال الشرطة والجيش، إذ تقارن المعلومات والصورة المخزنة في بطاقة «رفيد» مع تلك المكتوبة على بطاقة الهوية.
ومن الممكن أن تستخدم مثلاً، في التعرّف الى اللحوم المذبوحة شرعياً والمنتجات الزراعية العضوية والأطعمة المحتوية على كحول أو مشتقات الخنزير. وما زالت هذه التقنية حافلة بالتطبيقات والوظائف المتخصصة، وخصوصاً تلك التي تعتمد على المُكوّن المعلوماتي.
وتساعد تقنية «رفيد» على تحسين خدمة العملاء تجارياً وتوفير الوقت والجهد والمال وتقليل الخسائر والفاقد وزيادة الأمان، كما تقدر على التكامل مع تقنيات الاتصال اللاسلكي مع الانترنت مثل «واي فاي» و «واي ماكس» وشبكات الخليوي المتقدمة وغيرها.
وبذا، تُعزّز من التقنيات المستخدمة في «التجارة المحمولة» Mobile Commerce.
استخدامات طبية
بالنسبة الى الكثيرين، يبدو مألوفاً الحديث عن جرّاح ينسى مقصاً في بطن مريض، وحدوث خطأ في عمليات التخدير تؤدي الى الوفاة، كما حدث السنة الفائتة مع الفنانة سعاد نصر أثناء عملية شفط دهون... والقائمة طويلة جداً. وتَعِدُ تقنية «رفيد» بتغيير هذا المشهد.
تعد تقنية «رفيد» بوقف الأخطاء الطبية من خلال شرائح متناهية الصغر ومليئة بالبيانات
وقبل 4 سنوات، وضع «مكتب الأدوية والغذاء» الأميركي لائحة تنصّ على ضرورة استخدام هذه التقنية في المستشفيات، بغرض تحسين إدارة السجلات الطبية ورفع مستوى الرعاية الصحية فيها. وبدأ عدد من المستشفيات الأميركية بزرع بطاقات «رفيد» في المرضى للتعرف إليهم وتوثيق بياناتهم الصحية وتتبع حالتهم، وذلك بدلاً من الطرق الكتابية. ويستعان بالمعلومات المخزنة فيها لتحديد جرعات التخدير والأدوية المناسبة ومواعيد الدواء وحتى إصدار تنبيه عند الخطر، ما ساهم في إنقاذ أرواح كثيرة. كما باتت تلك البطاقات تلصق على الأدوات الجراحية وغيرها للتأكد من تعقيمها وفحصها قبل العمليات الجراحية وبعدها وذلك للتأكد من عدم تلوثها وتجنب نسيانها في مكان العملية. وبذلك يمكن تفادي مشاكل مثل فضيحة أكياس الدم الملوثة التي سببت ذعراً في المجتمع المصري أخيراً.
وفي السياق عينه، بدأت شركة «بفايزر» العالمية لصق هذه البطاقات على منتجاتها لإعطائها ميزة تنافسية ولضمان عدم تقليدها، إذ تحتوي البطاقة على كل المعلومات المتعلقة بمكونات الدواء وأعراضه الجانبية ومنطقة تصنيعه ومورده وغيرها.
وأخيراً، اخترعت شركة «كوداك» بطاقات «رفيد» يمكن بلعها من دون التسبب بأضرار لجسم الإنسان، مع إمكان إيصالها إلى الأجزاء المختلفة من الجهاز الهضمي وتفحّصها وجمع بيانات دقيقة عن أدائها، ما يُشكّل ثورة في عالم الطب. وثمة من يعمل راهناً على استخدام «رفيد» في التشخيص المبكر للسرطان.
مشاكل تقنية
الأرجح أن أهم ما يعيب تقنية «رفيد» قلة وسائل أمن المعلومات فيها، إذ يمكن استخدامها للتجسس على الشركات وانتهاك خصوصيات المنازل والحياة الشخصية للأفراد.
وكذلك يحتمل أن تتداخل إشارات «رفيد» مع نظيراتها في تقنيات مثل «بلوتوث» و «واي فاي»، ما يقود الى مشاكل جمّة. وإضافة الى ذلك، لا تزال أسعارها مرتفعة (وخصوصاً بالمقارنة مع تقنية «الباركود») إذ يراوح ثمن جهاز قراءة بطاقات «رفيد» بين ألفين وثلاثة آلاف دولار. وقد ينخفض السعر مع انتشار التقنية، ليصل سعر القارئ إلى 100 دولار. كما يراوح ثمن البطاقة حالياً بين 10 الى 20 سنتاً، ومن المنتظر أن يصل ثمنها مستقبلاً الى سنت.
وأخيراً، تحتاج تقنية «رفيد» الى توحيد المعايير المتصلة بها لتوسيع دائرة استخدامها. وعلى رغم المشاكل، يظل مستقبل هذه التقنية واعداً، كما يضمن استمرار تطورها مكانة مميزة لها في عصر ما بعد الكومبيوتر الذي تساهم في صنعه.
* أكاديمي في جامعة نبراسكا الأميركيةhttp://www.daralhayat.com/science_te...26b/story.html