الحجاجي المطعون يبحث عمن يسعفه
حسين الحجاجي
ماذا لو استنجد بك جريح.. أو شخص يتوشح بدمائه.
ماذا لو أرتمى بين يديك أو تشبث بك.. أو حتى ألقى بنفسه داخل سيارتك؟ وهو يستغيث متوسلا: أرجوكم انقذوني.. المستشفى..
أرجوك!!
كيف تتصرف حينها؟
وهل تدفعك اخلاقك لتقديم المساعدة له. وتنطلق به نحو اقرب مستشفى أم أنك تتردد؟
وتحاول الابتعاد تحت هاجس الخوف
أو الخشية من «سين وجيم». والدخول فيما يتوهمة البعض من
تعقيد في هكذا موقف.. هل تنسحب ببساطة وتعتبر الأمر
لا يعنيك؟ مفضلا ألا تكون طرفا والجريح ليس بقريب أو صديق؟
وماذا لو كان هذا «الجريح» في حالة احتضار ويوشك ان يودع الانفاس. فقبل أكثر من عشر سنوات.. ولعلكم تذكرون عشت نفس الدور وبمفارقات لم تكن إلا «هروبا» وحذرا وتحرزا حتى عن التفكير بلمس المصاب.. ذلك ما كان.. فما الذي سيحدث اليوم؟
وهل هناك وعيا وتفهما مميزا بين تلك الفترة وهذا اليوم؟
هل ستختلف المواقف، بروح مبادرة انسانية تستجيب لموقف انساني أم ان المسألة لن تخرج عن إطار «الفرجة» والتجمهر؟!.
أسئلة متعددة جعلتني اتحرك بخطى متناثرة ودماء نازفة أطلب «عونا» ربما يأتي وربما لا يأتي ممن إلتقيت بهم.. فدعونا نرى.
مالي صلاح
الرجل الذي كان يراقبني لم يتوقع انني سوف اغير اتجاهي واتمسك به. فقد تسمر في مكانه يشاهد الموقف بحذر، ولذلك عندما امسكت اكتافه بعنف:
ارجوك ساعدني.. انقلني للمستشفى..
«فز» الرجل بكل قوته وسحب يدي مذعورا وتركني انهار كمصاب على الرصيف.. واطلق ساقيه للريح.
كان يركض «فارا» لم يحاول حتى الالتفات..
- والله ثم والله لم افعل له شيئا.. هو.. هو جاء.. بدمه.. لا علاقة لي.. اقسم بالله ما اعرفه «مالي صلاح» كنت واقف.. والله واقف..
كلام طويل ومتناثر.. ظل الرجل يردده متوسلا وراجيا الا يتهمه زميلي المصور عندما لحق به لكي يوضح له حقيقة الوضع.
الرجل ظن زميلي يلاحقه لكي يقبض عليه لذلك أخذ يحلف.. ويحلف.. حتى بعدما شاهدني وانا انهض سليما معافا.. لم يبتسم.. ولم يحاول التوقف عندما ركضت نحوه.. بل ابتعد غير مصدق انه «نجا» بالسلامة.
لا تجيب لي مشكلة
وما كاد صاحب «القلاب» يستقر في مقعد سيارته حتى فوجئ بهذا الذي يصر عليه بضرورة انقاذه ونقله للمستشفى الرجل صاح بأعلى صوته:
- يا ولد.. يا «ابن الحلال» شوف لك سيارة صغيرة.. روح هناك.. ابتعد.. لا تجيب لي «مشكلة».. كان يصرخ في نفس الوقت ظلت يده ترتعش وهو يبحث عن «سلف السيارة» يريد ان يستعجل بتشغيلها..
في يده كانت سلسلة مفاتيح من حالة الرعب لم يدر اي واحد من تلك المفاتيح هو مفتاح السيارة.
لقد اصابه العمى.. فقد اخذ يجرب كافة المفاتيح لتسقط سلسلة المفاتيح من يده.. فيأخذها.
كان يبحث بيد ويحاول منعي من الصعود أو الارتماء بجواره بيده الأخرى.. اخيرا نجح في تشغيل السيارة.. لم ينتظر.. لقد انطلق بها وهو في حالة ارتباك.. لم يحاول حتى دفعي عن باب السيارة وإنما تحرك مع امكانية سقوطي وبالتالي دهسي بالعجلتين اليمنى الخلفية..
لا يهم بالنسبة لذلك الرجل المهم أن «يفلت» ويهرب.. وخصوصا عندما كتمت انفاسي ووضعت رأسي على رجله اليمنى «اندفع بسيارته وفر بتفحيطة قوية»..
الهروب
أما الاربعة الذين كانوا يقبعون في تلك الظهيرة تحت ظلال الشجرة.. فقد شاهدني احدهم فقام بهدوء وركض بسرعة ولم يقل لزملائه كما اتضح لي أي شيء.. فحالما اندفعت نحوهم ورميت نفسي على رجلي أحدهم حتى «طار» زميليه كل من الجهة الاقرب له، لدرجة ان احدهم قفز على احدى السيارات المتوقفة وهرب باتجاه أحد الازقة ولم يعد..
أما الآخر الذي ارتميت عليه.. فقد دفعني بعنف واسقطني على الارض ليركض هو الآخر في كل اتجاه.. نعم.. هرب من جهة ولكنه عاد للجهة الاخرى ثم عاد وهكذا لدرجة انه مر بجواري مرتين، وهو في تلك الحالة المربكة.. التي جعلته أخيرا يتجه نحوي متذكرا تلك المواطن التي لامست فيها اصابعه جسمي الدامي ويجلس بجواري بعدما خلع قميصه واخذ يمسح به الاماكن التي يتوقع وجود بصمات يده عليّ..
كنت اشعر بأنفاسه المتسارعة ويديه المرتعشتين وهو يمسح هنا أو هناك لدرجة حتى انه مسح اثار يده من على وجهي.. فعل ذلك ثم قفز هاربا وقد نسي قميصه بالقرب وهو لا يدري.
نصف رأس
كان عامل «صالون الحلاقة» يراقب المشهد في بداية الامر إلا أنه لم يتردد في قفل باب الصالون على زبونه الذي حلق له نصف الرأس وبقي النصف الآخر.. هذا الزبون كان خرج من الصالون لكي يشاهد مثل الاخرين.. عندما قفل العامل باب الصالون كان هذا الرجل بالخارج حاول العودة لداخل المحل إلا أن العامل رفض فتح الباب له..
الرجل بنصف رأس.. وبنصف شعر.. اخذ يطرق الباب يائسا، عندما وجد نفسه مضطرا «هرب» خشية ان اقترب منه. هرب متجاوزا الآتي الى الطريق الذاهب، ثم توقف على الرصيف هناك. بعض قائدي السيارة في ذلك الاتجاه توقفوا يرمقون ذلك الرجل الذي يسير «نصف رأسه محلوق بينما نصفه الآخر يمتليء بالشعر».. الرجل لم يشعر بنفسه.. الا انه لم يحاول الابتعاد اكثر لرغبته في العودة لصالون الحلاقة.. وقد تركته يعود.
يا ساتر!
وفي الطريق المؤدي لإحدى الدوائر الخدمية كان عدد من المراجعين يسيرون فيه، عندما شاهدوني ردد بعضهم:
«لا إله الا الله» - ياساتر.. في حين اطلق بعضهم ساقيه في الاتجاه الاخر وقد تراجع عن السير نحو سيارته بعضهم.. أوقفه الهلع وحاول ابعادي عنه دونما يلمسني..
أما الآخرون فكل «وجد له فرصة للهروب لم يتردد ماعدا احدهم فقد اختبأ خلف إحدى السيارات وظل «يطل» برأسه بين الحين والآخر لكن عندما ادرك انني متوجه نحوه انطلق هو الآخر لكي ينجو مثل البقية.
نحيب الهلع
لكن ما آلمني جدا هو ذلك الشاب الذي كان يجلس داخل سيارته «الدباب» هذا الشاب عندما فتحت باب سيارته ورميت نفسي على رجليه امام المقود.. آلمني بالفعل انه جلس يبكي.. وما توقعت.. يعلم الله لم اتوقع أبداً أن يصل الأمر الى هذه الدرجة..
كان يبكي ويهتز على المقعد كالملدوغ.. رافعا يديه الى الاعلى.. لم أحتمل.. فأردت وضع يدي على صدره لكي يطمئن فلم يزده ذلك الا نحيبا..
- يا أخي.. انا سليم: لا تخف.. مجرد دعابة.. وموقف.. شاهد كاميرا زميلي، الشاب لا زال يبكي..
وحتى عندما قبلت رأسه وبذلت المستحيل لكي يطمئن، وابلغته بحقيقة الموقف.. ايضا ظل يبكي الى ان قاد «دبابه» وغادر.. كان ذلك الشاب «يبكي» ربما كان بكاؤه الأخير من «الفرحة» ربما.
ارحمي ابنتك
أما تلك السيدة التي كانت تحمل طفلتها، فقد «افشلت» لي موقفا عندما اجبرتني على ايقاف الدور بسبب طفلتها، ففي الوقت الذي كنت اتحاشى ممارسة الدور في الناحية التي كانت تقف فيها.. كانت تتبعني لكي تشبع فضولها متناسية اثار مشاهدة طفلتها الصغيرة لهذا الرجل الغارق في دمه.
كلما ابتعدت وجدتها ورائي فما كان لي إلا أن اصرخ بها.
- يا أمرأة ارحمي ابنتك.. وغادرت الموقع بالكامل.
زوجتي معي
أصلا زاغت عينيه منذ ان اوقف سيارته امام احد الاسواق الشهيرة.. بل استعجل الخروج منها، لأنه كان قد رآني احاول مع اشخاص آخرين ان يسعفوني.
كان يعتقد ان بقاءه داخل سيارته سوف ينجيه الا انه بادر بالخروج منها عندما اقتربت منه اخذ يحاول قفل سيارته وهو يردد
- خذ ليموزين والله معي زوجتي.. لا.. لا..
فارتميت على باب السيارة.. كحالة اغماء..
- يا جماعة واحد فيكم يفعل خير ويحضر له ليموزين تكفون يا خلق.
- احدهم قال
- خذه أنت للمتسشفى رد
- والله.. والله ان زوجتي معي.. لكنها دخلت قبلي السوق.
آخر:
- يمكن انت «اللي صدمته».. شوف الرجل طايح على سيارتك».. رد:
- هذا الذي كنت خايف منه.. والتفت نحو احد العمال وقال:
تعال انت لا تروح.. بالله انا صدمته والا هو جاء من هنا.. صديق قل كلمة حق!.
العامل ابتعد فركض خلفه يريد الامساك به كشاهد لكن العامل استطاع الافلات.
عندما رأى الآخرين ينظرون إليه بريبه، ترك سيارته والناس ودخل للسوبر ماركت ركضا.
تحركت قليلا من على السيارة، فتحركت جموع المتفرجين مبتعدة..
كانوا «يتفرجون» بحذر، لذلك خطوة بتثاقل ممسكا بطني النازف كما بدا لهم دماً.. فتناثروا كل في اتجاه، حتى إن بعضهم إصطدم ببعض لكنهم تجاهلوا ذلك رغبة في «الفرار».
- وفي النهاية، وبصراحة تامة.. رغم الاعداد التي تعاملت معها في هذه الموقف الا انني لم اجد.. وبالفعل لم أجد ذلك الشخص «الانساني» والمبادر لمساعدة وانقاذ جريح أو مريض.
في المستوصف
حتى ذلك «المستوصف الخامس» الذي دخلته كإنسان مطعون.. تركني موظف الاستقبال فيه والموظفات طريحا على «بلاط المستوصف» امامهم وما تحركوا حتى يطلب «الطبيب».
قال لهم أحد المراجعين:
- اسعفوا الرجل.. رد احد الموظفين:
لا نستطيع حتى تأتي الشرطة.
وآخر:
- طيب نادي على الطبيب.. الرجل يموت..
لا يمكن للطبيب ان يلمسه مالم تحضره الشرطة عندها ادركت ان ارتمائي على البلاط كان خطأ، لذلك وفي حالة انين وتوجع نهضت وامسكت في حافة طاولة الاستقبال محاولا النهوض كمصاب وقلت:
- انقذوني.. رد:
- حاضر.. من طعنك.
قلت:
- انقذوني وبالمناسبة ليس معي قرش واحد. لم يرد الموظف، وما تحرك أحد
سوى احدى النساء صاحت:
- يا قليلين الحياء.. انقذوا الرجال وبعدين القروش..
لم يتحرك أحد..
- للاسف «قارئ متابع» اطاح بالموقف عندما فضحني -صحفي خفي- ليته على الأقل لزم الصمت.. ليته صمت..
وعموما: يظل السؤال قائما بعد كل هذه المواقف: لماذا لا يبادر الناس بتقديم المساعدة ولماذا يكتفون بـ «الفرجة» وينتابهم «الرعب» حتى في لمس المصاب؟ لماذا... لماذا؟!.
عكاظ