شاهدته جالسا في ركن أحد الفنادق ليس معه أحد، وأمامه على الطاولة فنجان قهوة صغير فارغ، أخذت أتأمله من بعيد وأنا أردد بيني وبين نفسي (يا سبحان الله)، أين كان وأين صار الآن؟!، أين العز، والشباب، والصحة، و(الهَيْلَمان)؟!، كلها ذهبت أدراج الرياح، ولم يبق غير الذل، والعجز، والمرض، و(المناخير التي أصبحت مدلدلة بالأرض).. يا سبحان الله، فعلاً يا سبحان الله.
اقتربت منه وسلمت عليه، فردّ على تحيتي بأحسن منها، مرحباً مهللاً بعين رجراجة دامعة، وهو الذي كان من الصعب أن يرد السلام على أحد، وأذكر أنني طلبت يوماً مقابلته، فجرى لي تحقيق طويل عريض من (سكرتاريته) يستقصون عن الأسباب والأهداف والدوافع، وبعد ذلك كله اعتذروا لي بدون أي لباقة على أساس أن الشيخ (مش فاضي).
سحبت أحد الكراسي وجلست بمواجهته، ونادى على (الغرسون) ليضيّفني، فطلبت كأساً من الماء الفاتر عليه شريحة ليمون.. فتبسّم وهو منكِّس رأسه إلى الأرض، فقلت له من دون أية مجاملة: إن الأرض التي تنظر إليها الآن غير ثابتة، لكنها (دوّارة)، فعرف مقصدي، فهزّ رأسه قائلاً: إنها فعلاً كذلك، كما أنها أيضاً (غدّارة).. ثم تابع كلامه قائلاً: هل تعلم يا (تركي)، فصححت له اسمي، فاستدرك معتذراً وقال: آسف يا مشعل، فالذاكرة بدأت تخونني، والمشكلة أنها لم تبدأ تخونني إلا بعد أن أصبحت وحيداً، لقد انفضّ الجميع من حولي وهجروني، حتى زوجتي الأخيرة طفشت هي أيضاً وتركتني، لقد اكتشفت متأخراً أن (وسَخ الدنيا) هو الذي يتهافت عليه الناس، قلت له: أنت تقصد (المادة أو الفلوس)، قال: نعم، قلت له: لماذا لم تكتشف ذلك (الوسَخ) إلا بعد أن طار من يديك، وأنت الذي كنت (تتمرغ) به ليلاً ونهاراً.
صمت قليلاً من دون أن يجيبني على سؤالي، لكن قال: هل تصدق أنني لم أكن أسير إلا وحولي ما لا يقل عن (30) مرافقاً، بينهم السكرتير، ومنسق الرحلات، وحافظ المواعيد، وكاتب الرسائل، والمصور، والمدلك، وحاجز أماكن السهر، وموظف التشريفات، والرجل الذي لا شغلة له إلا شراء الهدايا لزوجتي بمناسبة عيد ميلادها أو المناسبات الحميمة بيني وبينها، وكذلك وصيفاتها، هذا غير عامل التليفون، والمهرجين الذين يضحكونني (ويشرحون صدري)، والسائقين والحراس والصحافيين الذين أدفع لهم عن كل خبر يكتبونه عني.
والآن، ها آنذا أمامك مثلما ترى، لا أستطيع أن أدفع حتى إيجار غرفة واحدة في هذا الفندق الفخم، وأنا الذي كنت أحجز فيه طابقين كاملين كلما أتيت إلى هذه المدينة، قلت له: إذن ما الذي أتى بك إلى هنا؟!، قال: من أجل أن أشرب فنجانا من القهوة، وأستعيد الذكريات وأجترها.
ولكن هل تدري يا تركي، قلت له: مشعل، مشعل، قال: آسف يا أخي، هل تدري أنني رغم الإفلاس والألم، بدأت أتعود وأتأقلم بصعوبة على نمط حياتي الجديدة، وبدأت أقف مضطراً (بالصف)، وبدأت أذهب بملابسي بنفسي إلى المغسلة، وبالأمس ذهبت لأجدد رخصة سواقتي، وتحملت الكلمات القاسية والمهينة التي وجّهها لي الموظف عندما أراد أن يعطيني قسيمة مخالفة لأنني تأخرت بتجديدها، لكني رجوته وتوسلت إليه وكدت أقبّل رأسه ليعفيني منها، وأخيراً سامحني وأعفاني منها والحمد لله.
عند ذلك نهضت مودعاً، وما كدت أخطو خطوة واحدة، إلاّ وهو يناديني: يا أخ تركي، اقصد يا أخ مشعل، ممكن أطلب منك طلباً، قلت: أنت تأمر، قال: ممكن تسلفني؟!، قلت له: ما المسؤول بأغنى من السائل (اتلم المتعوس على خايب الرجا) يا خيّي، وإن شاء الله سوف أحاول أن أسلفك (بالمشمش)، هذا إذا فرجها ربي، أما إذا لم يفرجها، فسوف أقف معك (بالصف).
meshal@asharqalawsat.com