حدث ذلك في صباح يوم الاثنين ؛ حوالي الساعة التاسعة صباحا ،أمام باب فيلا شخص اسمه فلان بلقاسم الواقعة في الضاحية الجنوبية للعاصمة .
كان ساعي البريد يعالج فتحة الصندوق الضيقة ليدس فيها الرسائل . علقت أصابعه في تلك الفتحة وتمزق جزء من الرسائل كما تمزقت أجزاء من جلدة أصابعه. في الأثناء ارتفع باب القاراج وظهرت مقدمة السيارة الفارهة التي يمتلكها بلقاسم . وما ان أصبحت السيارة بأكملها في وسط الشارع حتى قفز الكلب خارجها وهاجم على الفور ساعي البريد العالق بباب الفيلا .
كان بلقاسم قاصدا عيادة الطبيب البيطري الموجودة في الضاحية الشمالية للعاصمة ، وقد تأخر عن موعد الزيارة الذي عقده مع الطبيب ليقوم بالفحص الروتيني والدوري للكلب ، ولهذا السبب كان مضطربا ونسي زجاج النافذة الخلفي للسيارة مفتوحا مما مكن الكلب من الخروج ومهاجمة رجل البريد .
كلب بلقاسم هو من “نوعية الدوبرمان “المعروفة بشراستها وقدرة أنيابها على هرس العظم وخلطه باللحم ، ولكن بلقاسم اشترى هذا الكلب منذ أكثر من أربع سنوات و كان يفضله حتى على كلاب” البيرجي ” التي يدربها زملاؤه في العمل من رجال شرطة وأمن . وقد كان يقول متفاخرا : لقد اشتريت “سعد” منذ كان جروا لم يبلغ الشهر الأول من عمره ، وقد كان وحيد أمه ” فرادي ” كما يقال .
هذه الفصيلة من الكلاب هي من أرشق الأنواع وأقواها ، ولكنها للأسف ليست الأذكى ، لأنها سرعان ما تعود الى طبيعتها الذئبية في حالات الخطر و الهجوم ولكن هذاالأمر لا يزعجني كثيرا ، فأنا أحتاج فعلا الى كلب شرس . يردف بلقاسم.
باغتت سرعة الكلب ساعي البريد الذي لم يجد الوقت ليفهم ذلك الألم الخرافي الذي أحس به في أعلى فخذه ، كما أنها باغتت بلقاسم نفسه ، الذي ما ان استوعب الأمر حتى جعل ينادي ودون حتى أن يغادر سيارته :” سعد.. تعالى الى هنا .. كفى ..” ، ولكن البهيمة ظلت غارزة أنيابها في لحم الرجل الذي بدأ في الصراخ ، ثم حاول بعد ذلك أن يدفع عنه الكلب باستعمال يديه للضرب واللكم ،ولكن الأخير ترك فخذ الرجل وأراد مهاجمة العنق، بعد أن أثاره ما تلقاه من دفعات وضربات ، ولحسن الحظ ، أطبقت العضة على لحم الساعد ولم تبلغ الرقبة بعد أن حمى الرجل وجهه بحركة غريزية..
كان الكلب يجر ساعي البريد الذي سقط أرضا ، حين تلقى فجأة ضربة رهيبة على أم رأسه بآلة حديدية ، فعوى وأفلت ما بين فكيه وتراجع وهو يترنح ، ولكن ضربة ثانية فجرت جمجمة البهيمة وألقتها لمترين أو ثلاث ميتة على الرصيف غارقة في دمائها ..
كان الرجل الذي يمسك بالآلة الحديدية ، والتي تبين في ما بعد أنها رافعة سيارة يرتدي هو الآخر زي عمال البريد و قد كان يقود سيارة وليس كزميله الذي يستعمل الدراجة العادية، وقد صادف مروره أمام المكان رؤيته لزميله وهو يهاجم من طرف ذلك الكلب الشرس ، فلم يتردد في النزول من السيارة والتسلح بالرافعة الحديدية الثقيلة والدفاع عنه.
كان الموقف سريعا ومباغتا حتى أن بلقاسم لم ينزل حتى ذلك الحين من سيارته ، ولكنه حين رأى كلبه وقد تكدس كخرقة سوداء بلا حراك وسط بركة من الدماء الحمراء ، نزل سريعا واتجه اليه وانحنى عليه يحركه وهو ينادي : سعد ..سعد..
وهنا أتاه الصوت : أيهمك أمر الكلب .. ولا يهمك أمر هذا الرجل المسكين الذي كاد يقتله حيوانك المفترس هذا .؟؟؟.
رفع بلقاسم وجهه وهو لا يزال جاثيا على ركبتيه أمام جثة الكلب وقال للرجل الواقف الى جانب جسد زميله الملقى أرضا و الذي مايزال ممسكا بالرافعة الحديدية التي تقطر بالدماء : “ولكن ضربة واحدة كان تكفي لابعاده فلماذا قتلته..”.
أجاب الرجل :” فلتذهب أنت وحيوانك القذار إلى الجحيم”
لم يرد بلقاسم ولكنه نهض ببطىء . اتجه بهدوء الى سيارته .فتح الباب . فتح الدرج الموجود تحت لوحة القيادة . أخرج منه مسدسا صغيرا يشبه تلك المسدسات التي يمتلكها رجال الأمن و اتجه في خطى بطيئة الى الرجل .
كان ما رآه ساعي البريد الذي هاجمه الكلب والذي كان لا يزال ممددا على الأرض، يشبه الحلم أو السراب أوأي مشهد آخر غير واقعي : سقطت في البداية الرافعة الحديدية وأحدثت ر نينا معدنيا قويا اثر ارتطامها بالأرضية الصخرية للرصيف ، ولكن هذا الرنين بدا لساعي البريد كأنه صوت صدى بعيد..بعيد جدا، ثم سقط جسد زميله ممددا الى جانبه.
كان يرى في الوجه الذي قابله ، عينين مفتوحتين، فارغتين وقد سال خيط من الدم الأحمر على جانب الفم متقاطرا فوق الرصيف. صعدت الى أنفه رائحة شواء محترق، فاتجه بنظره الى الأسفل فرأى ثقبا كبيرا في الصدر له شكل دائرة سوداء تنز حوافها أيضا بالدم .
بعد أن أطلق بلقاسم النار على رجل البريد الذي قتل كلبه سعد ، صعد في سيارته واتجه الى مركز عمله وسلم نفسه لزملائه، كما سلم مسدسه الخاص الذي استعمله في جريمة القتل معترفا بقتله لشخص ما.
أثناء المحاكمة قال بلقاسم : لقد كنت في حالة دفاع عن النفس ، لقد قتل الرجل كلبي وأراد أن يقتحم المنزل بغاية السرقة…
قاطعه ساعي البريد : أنت تكذب .. لقد قتل زميلي كلبك بعد أن كاد يقتلني وأنا أضع رسائلك في صندوق بريدك .. فقمت أنت بقتله وأطلقت على صدره الرصاص ..
لم يصدق القاضي أقوال رجل البريد واتهمه بشهادة الزور، وحكم على بلقاسم بسة أشهر سجن مع تأجيل التنفيذ وغرامة مالية قدرها ألف دينار لاستعماله السلاح .. وقد خفف من هذا الحكم تسليمه لنفسه للعدالة و اعترافه بما نسب اليه، فهو أيضا رجل أمن ورجل قانون ويعرف كيف تسير الأمور..
.وقع خبر الحكم الذي أصدرته المحكمة في حق بلقاسم على عون ساعي البريد وقع الصاعقة ، ونفس هذا الوقع أحس به زملائه في المركز الذي يعمل فيه .
في البداية قرروا أن بلقاسم هذا، لن يتلقى ما دام على قيد الحياة أية رسالة ، سواءا كانت ظرفا عاديا أواشتراك في جريدة ما أومجلة ما ، ولن تصله كذلك فواتير الماء والكهرباء والغاز والهاتف ، لأن هذه أيضا ترسل عن طريق البريد… في النهاية قرر الجماعة عزله وبصفة كلية بريديا. حتى أن أحد السعاة قال ساخرا : “فليعد الى استعمال الحمام الزاجل ليحصل على راتبه الشهري “. ولكن أحدهم ويبدو أكثر جدية من بقية الزملاء ، اقترح أن تطال نفس العقوبة القاضي الذي أصدر حكم الجور والظلم الذي لم ينصف زميلهم الشهيد.
أرسل عنوان كل من القاضي و بلقاسم الى جميع مراكز البريد الموجودة بالجمهورية من أقصاها الى أدناها عن طريق الفاكس ، الذي تضمن نص القرار والأسباب الداعية الى اتخاذه.
بعد يومين توصلت الشرطة الى معرفة الأشخاص الذي كتبوا نص الفاكس ، فقبض عليهم وسجنوا بتهمة التحريض والاخلال بالأمن العام .
قرر بقية الزملاء وكرد فوري على الخطوة التي قامت بها الشرطة، ارسال فاكس آخر الى بقية المراكز البريدية ، يقضي بعزل كل من مبنى المحكمة و مركز الشرطة الذي يعمل فيه بلقاسم بريديا، وتتوقف تبعا لذلك أي مراسلة قادمة من هاتين المؤسستين أو موجهة اليهما .
عاد رجال الشرطة مرة أخرى و احتجزوا مجموعة من سعاة البريد عشوائيا هذه المرة. ولكن ذلك كان دون جدوى ، فقد انقطع البريد كليا على أكثر من عشرين مركز للشرطة وأكثر من خمس محاكم. فقد انتشر خبر احتجاز الزملاء بين جميع مراكز البريد الموزعة على كامل تراب الجمهورية . وكان مصير أية رسالة أو أي شيء يمر عبر البريد ويحمل عناوين هذه المؤسسات، يلقى مباشرة في سلة المهملات و دون تردد.
أصبح الأمر فعليا معقدا ، عندما جاء أعوان من شركة الكهرباء وقطعوا التيار عن فيلا بلقاسم لعدم تسديده ثمن الفاتورة ، ليتبعهم بعد ذلك بيومين أعوان شركة توزيع المياه ، ثم شركة الهاتف … ورغم استماتته في الدفاع عن نفسه ، كمواطن صالح لم يتخلف مرة واحدة في حياته عن دفع مستحقات الدولة من ماء وكهرباء وهاتف ، فان الجماعة لم يعروه اهتماما وقالوا له : “هذه أمورك … نحن هنا لا نقوم بأكثر من عملنا …. ”
الأمر نفسه حدث في مبنى المحكمة ورغم تشكل هيئة من المحامين برئاسة القاضي، الذي بت في قضية ساعي البريد القتيل ، للدفاع عن مؤسستهم ومقر عملهم ، فان فوز محامي شركات الكهرباء والماء والهاتف كان ساحقا، وبالتالي لم تكتف هذه الأخيرة بقطع خدماتها عن المحكمة بل غرمتها بمبالغ مالية باهضة ترتفع في كل مرة يتخلف فيها ارسال المستحقات المالية عبر البريد…
بعض رؤساء مراكز الشرطة التي انقطع عنها البريد ، عرفت عنواينهم وبالتالي قطع عنهم أيضا بريدهم الخاص ، الذي يصلهم في العادة حتى بيونهم.
طفح الكيل بلقاسم ، عندما مر أكثر من شهر دون وصول جهاز طبي دقيق ، خاص بتنظيم دقات القلب ، كان أوصى به أحد معارفه المقيمين بالخارج ليرسله لأمه المريضة .
وعندما اتجه الى مركز البريد ليستفسر الأمر، قابله الأعوان والموظفون هناك ببرود وتجاهلوه تماما، فاتصل ببعض زملائه وحمل معه مجموعة من رجال الشرطة الذين يعملون تحت امرته وقاموا بضرب الجميع هناك باستعمال عصي الشرطة المطاطية ، وذلك أمام أعين الحرفاء والناس الموجودين بقاعة مركز البريد.
رفعت شكوى ضده ، فقبض عليه وعلى مساعديه ، وكخطوة حسن نية قام القاضي بالافراج عن الأعوان التي تم احتجازهم من قبل ، بدعوة التحريض والاخلال بالأمن العام.
عندما عاد هؤلاء الى العمل ، اقتنع الجميع بما لديهم من تأثير واقتنعوا أيضا أنهم أصبحوا الآن في موقع قوة، يتيح لهم املاء الشروط.
بعد أكثر من ثلاث أسابيع من انقطاع الرسائل ، وصلت أول رسالة الى القاضي حتى عنوانه الخاص ، وعندما فتحها متلهفا ، وجد فيها النص التالي : نحن أعوان وموظفي الادارة المركزية للبريد نطالبكم بما يلي : نظرا لحكمكم الجائر، الذي أهدر حق زميلنا الشهيد ، ندعوكم لاعادة النظر في ملف القضية وفتح تحقيق جديد … كما نطالبكم بحق زميلنا الجريح ـ الذي تعرض لهجوم كلب المدعى عليه ـ وذلك أثناء القيام بوظيفته. هذا ونلفت انتباهكم الى أن زوجة الفقيد لها ثلاث أبناء مازالوا في عمر الدراسة ، ونرجو أن يصرف التعويض المادي والمعنوي الذي تستحقه لها ولأبنائها في أقرب وقت ممكن .. والسلام
وكانت الرسالة قد ذيلت ، بأكثر من مائة توقيع لأعوان وموظفي بريد.
استشاظ القاضي غضبا وأحس بالاهانة ، فبعد أن أطلق سراح رجال البريد الذين كان يحتجزهم كتعبير عن حسن النية وحل للمسائل بالتي هي أحسن ، ها هي البقية تتطاول عليه وتتطاول على سيادة القانون التي يمتلكها بين يديه، وتملي عليه ماذا سيفعل في لهجة تهديدية وقحة .
فقال مجدفا : يا إلهي … لن تهزمني شرذمة من سعاة البريد الحقيريين ….
وعندما أراد أن يتصل ببعض زملائه من القضاة ورؤساء المحاكم الأخرى التي طالتها العقوبة البريدية ، تذكر أن أعوان شركة الهاتف قد قطعوا عنه الخط لأنه لم يسدد الفاتورة ،لأنه لم يتلق الفاتورة أصلا … فضاعف ذلك من غضبه ونزل الى سيارته يقودها في سرعة جنونية ـ يتيحها له القانون الذي بين يديه ـ ليصل الى أقرب الزملاء اليه من حيث السكنى .
بعد أكثر من ست ساعات بين التنقل والسفر من هنا الى هناك والاتصال عبر الهواتف الخلوية ، كان وزير النقل والمواصلات مجتمعا اجتماعا طارئا مع أكثر من اثني عشر قاض ورئيس للمحكمة من مختلف نواحي العاصمة وضواحيها وأحوازها.
فصاح في وجوه الجميع : أمر بهذه الخطورة ولا يتم اعلامي به الا الآن ،وبعد مضي أكثر من شهر ….ما هذا الاهمال ؟؟ ما هذا التسيب ؟؟؟
صرخ الوزير بتلك العبارات ، ثم رفع سماعة هاتفه وقال لسكريتره في قاعة الاستقبال بمكتبه :اتصلي فورا بأكبر عدد ممكن من مدراء مراكز البريد في العاصمة وقولي لهم أن الوزير يريد حظورهم فورا الى مكتبه.
اتجه بالحديث الى القاضي وقال : قلت لي أنك أطلقت سراح أعوان البريد وهم الآن يطالبونك بنقض حكم صدر بحق البعض ، ويهددونك ،بأنه ان لم تستجب لمطالبهم فانهم سيعزلونك بريديا …
قال القاضي : أنا معزول فعليا يا سيدي الوزير .. فلم تصلني لأكثر من ثلاث أسابيع أي رسالة ، حتى أن الكهرباء والماء مقطوع عن بيتي لأن الفواتير لم تصلني هي الأخرى ولم أعرف مواعيد تسديدها ، فقطعت الشركات المعنية خدماتها عن البيت..
ضرب الوزير بقبضتيه على الطاولة الكبيرة التي جلس اليها الجميع مهمومين مضطربين وقال : هذه سابقة خطيرة … هذا تهديد لأمن الدولة ، سأضرب على يد المخربين بعصا من حديد.. اللعنة.. ان لزم الامر سوف أرفع المسألة الى الجهات العليا ..
ارتفع في هذا اللحظة صوت طرقات خفيفة على باب المكتب ، فقال الوزير : ادخل
أطلت السكرتيرة برأسها في وجل واضح الى الداخل وقالت : لقد وصل خمسة من مديري مراكز البريد يا سيدي وهم في انتظار الاذن بالدخول ..
أدخليهم فورا ، قال الوزير
دخل الرجال الخمسة الى مكتب الوزير وقد علت سحنتهم علامات التوتر ، بعد أن نزعوا من مكاتبهم انتزاعا على يد رجال خطيرين تابعين لمكتب الوزارة.
قال الوزير في غطرسة واضحة : ما هذا الذي يحدث أيها السادة ؟.. أريد تفسيرا..
قال أحد المديرين : ان المسألة قد خرجت من أيدينا يا سيدي الوزير … فالعمال مصّرين على الاقتصاص لصديقهم الذي قتل باستعمال السلاح الناري أثناء تأديته لواجبه كساعي بريد .. ثم أن الجاني لم ينل في نظرهم العقوبة العادلة وانما أطلق سراحه على الفور … وذلك…
وذلك ماذا؟ قال الوزير..
قال المدير بتردد: وذلك لأنه رجل أمن…
صاح الوزير : ومن قال لك أن رجال الأمن فوق القانون، ان القانون فوق الجميع…و..؟؟
قاطعه المدير : انهم .. أي الموظفين وأعوان البريد يرون المسألة على هذا النحو، وخاصة بعد أن قتل زميلهم من أجل كلب..
صاح الوزير مرة أخرى وهو يتميز من الغيظ : هل يتطوع أحدكم أيها السادة ويشرح لي هذه الحكاية الغريبة بالتفصيل .. فأنا لا أفهم شيئا مما يقال الآن؟؟؟
تدخل هنا القاضي وقال : ان القضية التي تم البت فيها والتي كنت أنا الذي أصدر فيها الحكم النهائي ، مفادها أن بلقاسم وهوفعلا أحد رجال الأمن ، كان قد تعرض بتاريخ كذا على الساعة كذا لمحاولة مداهمة لمنزله ، وقد قام الجاني في الأثناء بقتل كلبه ، فكان من السيد بلقاسم الا أن أطلق النار دفاعا عن النفس ، ولهذا رأت المحكمة أن القضية هي قضية دفاع عن النفس مشروعة ؛ خاصة وأن الجاني كان مسلحا برافعة سيارة حديدية ثقيلة ، أدت ضربة واحدة منها الى قتل كلب قوي من نوع الدوبرمان المعروفة بشراستها وقوة شكيمتها…
قاطعه المدير : ان الجاني الذي تتحدث عنه يا سيدي القاضي هو ساعي بريد وقد استعمل الرافعة الحديدية للدفاع عن زميله الذي كاد يقتله الكلب الشرس كما وصفته وذلك أثناء تأديته لواجبه ، ولم يستعمل تلك الآلة لاقتحام المنزل..
قال القاضي : هذا رأيك أنت الخاص ، ولكن حيثيات القضية هي أخرى … وقد قمنا أنا ومستشاري المحكمة بدراسة جميع التفاصيل قبل التصريح بالحكم … فغايتنا لم تكن حماية رجل أمن والتستر عليه كما فهمنا من كلامك.. وهذه أيضا دولة القانون كما قال سيدي الوزير منذ حين … غايتنا كانت اذا هي العدالة ولا شيء غير العدالة..
قال الوزير مقاطعا الجميع : القضية اذا هي قضية جنائية ، لا أكثر … حسنا .. حسنا … اسمعوني أيها السادة أنا ليس لدي الوقت لمناقشة هذه التفاصيل … كل ما أريده الآن هو أن توقفوا الشلل البريدي الذي وقع فيه بعض الأشخاص و بعض المؤسسات… وذلك خلال الساعات القادمة.
نهض الوزير من على كرسيه وانحنى لينظر مباشرة ، ومن مسافة قريبة الى وجوه مديري مراكز البريد ، وقال : هل كلامي واضح ؟ أيها السادة…
خلال يومين كاملين لم تصل أية رسالة الى مكتب الوزير ،حتى الصحف اليومية التي كان يجدها كل صباح فوق سطح مكتبه لم تكن موجودة…
قامت الشرطة باعتقال أكثر من مائة موظف وساعي بريد، وتم تعويضهم برجال من المخابرات و الجيش ووحددات من الحماية المدنية ،لكن الزملاء الذين لم يعتقلوا وبقوا في مواقعهم كسعاة أو كعمال أو حتى كعاملي نظافة داخل مراكز البريد رفضوا ابداء أي مساعدة أو تعاون ل”زملائهم الجدد”، فاضطربت الأمور أكثر وأصبحت الرسائل تصل الى عنواين خاطئة، وصرفت بعض الحوالات المالية البريدية لغير أصحابها، وتلقى بعض المواطنين عبر البريد هدايا قادمة من الخارج ومن دول لم يسمعوا بها في حياتهم ، كما أن بعض الأحزاب المعارضة قد استغلت الموقف وأرسلت رسائل تعبر عن مواقفها السياسية الممنوعة للناس …وسادت فوضى وهرج كبيرين …
صاح الوزير عبر أسلاك الهاتف في أذن القاضي : أريد أن تزج بلقاسم الحقير هذا في السجن حالا..
قال القاضي : انه بالفعل في السجن ياسيدي …
صاح الوزير : فلتعدمه اذا أمام الملأ ..في الساحة العامة… أو لتعدمه في مركز البريد ( الساحة البريدية ) … يا سي …
ثم أقفل المكالمة في عنف…