كنت يوما في زيارة لأسرة أحد الاخوة الأسرى ـ وما أكثرهم ـ فلفت انتباهي ابنه وهو يطوف في فناء البيت ويتنقل يمنة ويسرة فلا يكاد يقر له قرار ، تأملت في محياه ، فلمحت الكآبة والأسى مرسومة عليه ، ويكاد ينطق سائلا : أين أبي؟ فتملكني شعورٌ عجيبٌ وهاجت في خاطري مشاعرُ متوالية ، فتمثلتُ حاله وهو يحكي مأساته ، ويبث شجونه ، ويخاطب خواطره ، فكانت هذه الكلمات المنظومة ، والعبارات المرسومة ، يحكيها لنا بلسان حاله ، لما عجز عنها مقاله
أبي قـد مزقت قلبي الكلـوم
وبـين جوانحي تحيـا الهمـوم
تراني في الـورى أمشي كئيبـاً
كـأني مـن تنكرهـم يتيـمُ
أقـول ألا أرى منكم خليـلا
بـه تُجلى عن النفس الغيـومُ
ولكن من يُجيب ؟ ومن أنادي
لعمري حـلَّ بي خطبٌ جسيمُ
تطـاردني نـواظرهـم وإني
نظرتُ إذا بهـا حـولي تحـومُ
أروح وأغتدي في كـل يـومٍ
ولكن _ يـا أبي _ من ذا أروم
كساني الحزنُ ثوبـا فوق ثوبٍ
فظـن النـاسُ بي أني سقيـمُ
ومـا بي علـةٌ إلا افتقـادي
حُنُوَّ أبي فصـرتُ كمن يهيـم
تفيض الذكريـاتُ على فؤادي
فمنهـا ترتـوي عينٌ سَجـومُ
فأذكركم أبي في كل صبـحٍ
وأذكركم إذا بـدت النجـومُ
لقـد طال الغيـاب أبي فقلبي
أحـاط بنـوره ليـلٌ بهيـمُ
يمر العيـدُ تلـوَ العيـد فينـا
وعيدي دونكـم لا يستقيـم
فعيدُ النـاس أفراحٌ وعيـدي
وعيـدٌ تلتقي فيـه الغمـوم
أرى أمي الرءوفة في اكتئـابٍ
وقـد هدت جوانبَهـا السقومُ
طوت في صدرهـا بثاً وشجواً
تَفجَّرَ في الحشـا منـه الحميمُ
أسائلهـا أيـا أمـاه قُــولي
ولا تُخفي فصـبري لا يـدومُ
فَسُحَّتْ من مآقيهـا دمـوعٌ
يذوب لشأنهـا القلبُ السليمُ
أيـا أمـاه إني لسـتُ أدري
ألـوم النفـسَ أم مَن ذا ألوم
أعـدتُ سؤالهـا والدمعُ مني
على خـدّيَّ همَّـارٌ طَحـوم
أمـات أبي ؟ فقالت : لا ولكن
أسـيرٌ عاقـه طـاغ غشـوم
بـأي جريـرة أسروه قـولي
أكَون أبي يصـلي أو يصـوم؟
ألم يـك داعيـا للحق جهـراً
وقـد آذاه في ذاك الخصـومُ؟
ألم يـك سالكـا نهجـا سوي
يُنـيرُ طريقَـه نـورٌ عميـمُ؟
ألم يـك داعيـا في كـل حينٍ
إلى التوحيـد بالحسـنى يقوم؟
ألم يـك يبعث الآمـالَ فينـا
ويبنيهـا وقـد عفت الرسومُ؟
أليـس أبِي أبَـىَ ذلا فمـاذا
جـنى حـتى يكبلـه اللئيـمُ؟
ألم يـكُ يُطعـم المسكينَ دوما
ويَطربُ حين يلقـاه العـديم؟
يكـادُ يذوبُ من كمدٍ إذا ما
غَـدَا في بحر أمتنـا يعــومُ
أصـار أبي أسيراً دون ذنـبٍ؟
فمـاذا يبتغي منـه الظلـومُ؟
ألا تبـاً لطغيـانٍ تمــادى
يقـود جيوشَـه ذاك الرجيمُ
فصبرا يـا أبي عمّـا قريـبٍ
يُبـدِّدُ شمـلَ أحزاني الصَّروم
فقـد ولىّ زمان النـوم عنـا
ولا يـُخزي أعادينـا النؤوم
فـإن المجـدَ لا يبنيـه قـومٌ
رضـوا عيشـاً يحف به النعيم
ولكـن يبلغُ الأمجـاد قـومٌ
تمنت بُعْـدَ شأوهـمُ النجـومُ
ويـا أمـاه صبراً إن يومــاً
قريبـا يحكم الشرعُ الحكيـمُ
http://www.al-asra.com/