....أيها المؤمنون أتقوا الله تعالى وأشكروه على ما منّ به عليكم أن بعث فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة رسولا أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور من ظلمات الجهل إلى نور العلم ومن ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد....
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين وصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما مَنَّ به عليكم أن بعث فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة رسولاً أخرجكم الله به من الظلمات، من ظلمات الجهل إلى نور العلم ومن ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان ومن ظلمات الجور والإساءة إلى نور العدل والإحسان ومن ظلمات الفوضى الفكرية والاجتماعية إلى نور الاستقامة في الهدف والسلوك ومن ظلمات القلق النفسي وضيق الصدر إلى نور الطمأنينة وانشراح الصدر، قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الزمر:22] وقال الله عز وجل: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [إبراهيم:2،1] لقد بعث الله نبيينا محمد صلى الله عليه وسلم والناس يتخبطون في الجهالات ففتح لهم أبواب العلم في معرفة الله وما يستحقه من الأسماء والصفات وما له من الأفعال والحقوق وأبواب العلم في معرفة المخلوقات في المبدأ والمنتهى والحساب والجزاء، قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون:12-16] وفتح الله لعباده بما بعث به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم فتح الله لهم أبواب العلم في عبادة الله والسير إليه وأبواب العلم في السعي في مناكب الأرض وابتغاء الرزق بوجه حلال فما مِنْ شيء يحتاج الناس إلى معرفته من أمور الدين والدنيا إلا بَيّن لهم ما يحتاجون إليه فيه حتى صاروا "على طريقة بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" (1) ولا يتيه فيها إلا أعمى القلب لقد بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم والناس منغمسون في الشرك في شتى أنواعه فمنهم من يعبد المسيح ابن مريم ومنهم من يعبد الأصنام ينحتونها بأيديهم ثم يتخذونها إلهاً يعبدونها من دون الله ومنهم من يعبد الأشجار ومنهم من يعبد الأحجار حتى كان الواحد منهم إذا سافر ونزل أرضاً أخذ منها أربعة أحجار فيضع ثلاثة منها تحت القِّدر وينصب الرابع إلهاً يعبده ما أتعس هذه العقول وما أعظم جهلها أحجار تُنصب تحت القدور تُعبد من دون الله عز وجل فأنقذهم الله تعالى وله الحمد والمنة أنقذهم الله برسوله من هذه الهوة الساحقة والسفه البالغ من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن خالق الأرض والسماوات فحقق التوحيد لرب العالمين تحقيقاً بالغاً وذلك بأن يعبد الله وحده لا شريك له عبادة يتحقق فيها الإخلاص لله ذي القسط والمحبة والتعظيم فيكون العبد مخلصاً لله في قسطه مخلصاً لله في محبته مخلصاً لله في تعظيمه مخلصاً لله في ظاهره وباطنه لا يبتغي بعبادة الله سوى وجه الله والوصول إلى دار كرامته كما قال الله عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام:163،162] وقال سبحانه: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [الزمر:54] وقال الله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة:163] وقال جل ذكره: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ [الحج:34] هكذا جاء كتاب الله وتلته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوحيد وإخلاصه وتخليصه من كل شائبة وسد كل طريق يمكن أن يوصل إلى شل هذا التوحيد أو إضعافه حتى إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ما شاء الله وشئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده" (2) فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل أن يقرن مشيئته بمشيئة الله بحرف يقتضي التسوية بينهما وجعل ذلك من اتخاذ الند لله عز وجل واتخاذ الند لله إشراك به وحرَّم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلف بغير الله وجعل ذلك من الشرك بالله فقال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" (3) وذلك لأن الحلف بغير الله تعظيم للمحلوف به بما لا يستحقه إلا الله عز وجل فلا يجوز للمسلم أن يقول عند الحلف (والنبي) أو (وحياة النبي) أو (وحياتي) أو (وحياة فلان) بل يحلف بالله وحده أو يصمت عن الحلف ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يلقى أخاه فيسلم عليه أينحني له قال: لا. فمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الانحناء عند التسليم لأن ذلك خضوع لا ينبغي إلا لله رب العالمين فهو سبحانه وحده الذي يركع له ويسجد وكان السجود عند التحية جائزاً في بعض الشرائع السابقة ولكن هذه الشريعة الكاملة شريعة محمد صلى الله عليه وسلم منعت منه وحرمته إلا لله عز وجل فلا يجوز لأحد أن يسجد لأحد وفي الحديث أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قدِم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم لزعمائهم وذلك قبل أن يُسَلموا فلما رجع معاذ سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا يا معاذ فقال رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله يعني أحق من أساقفتهم بالسجود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت آمر أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" (4) من عظم حقه عليها وروى النسائي بسند جيد عن انس بن مالك رضي الله عنه "أن ناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" (5) هكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب إن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل مع أنه صلى الله عليه وسلم خير الخلق وسيد الخلق بلا ريب ولا شك لكنه خاف أن يستهويهم الشيطان فيوقع في قلوبهم الغلو حتى يرفعوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فوق منزلته وهي العبودية والرسالة حماية لجانب التوحيد وسداً لطرقه الموصلة إليه قولية كانت أم فعلية وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر على من قرن مشيئته بمشيئة الله بحرف يقتضي المساواة فكيف بمن جعل المشيئة للمخلوق وحده دون الله غلواً ومدحاً حين قال يخاطب ممدوحه:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار(6)
هكذا يقولها لبشر يقول له ما شئت يعني ما شئت كان لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار تعالى الله عما يقول الكافرون الظالمون علواً كبيراً جعل هذا الرجل حكم المخلوق فوق أقدار الله فسبحان الله رب العرش عن ما يصفون.
أيها الناس إن على المرء أن يراعي جانب التوحيد ويعرف للخالق حقه فلا ينقصه ولا يشرك فيه معه غيره لا باللفظ ولا بالفعل ولا بالقلب وإن عليه أن يعرف للمخلوق حقه ويقوم بما أوجب الله عليه منه ولا ينزله في منزلة الخالق لا باللفظ ولا بالفعل ولا بالقلب فللخالق حقه المختص به لا يشاركه فيه غيره وللمخلوق حقه الواجب إعطاءه له ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ حين سجد له وأنكر على الرجل حين قال ما شاء الله و شئت وإننا لنسمع أن في بلاد المسلمين من ينطلقون إلى قبور من يزعمون أنهم أولياء فيدعونهم مِنْ دون الله ويسجدون لهم ويُقبلون التراب ويمسحون به جباههم ويعركون وجوههم على عتبات صاحب القبر وكل هذا شرك بالله عز وجل لا ينفعهم معه لا صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج حتى لو صلوا وصاموا وزكوا وحجوا واعتمروا فإنها لا تقبل منهم إذا كانوا منطوين على هذا الشرك لأن الله تعالى يقول لرسوله صلى لله عليه وسلم: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر:65] يخاطب الله مَنْ؟ يخاطب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر:65] مع إن الشرك لم يقع منه صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يقع صرعاً ولكن يخاطبه بذلك فكيف بمن دون رسول الله صلى عليه وسلم إن من أشرك بالله ولياً أو نبياً أو ملكاً فدعاه ورجاه كما يرجو الله ويدعوه فإنه كافر مشرك لا يقبل منه عمل ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:88] أيها المسلمون أيها المستمعون لهذا القول إنه يجب عليكم بعد ذلك أن تتوبوا إلى الله توبة نصوحاً مما صنعتم وأن تنصحوا إخوانكم الذين يصنعون هذا وهم جاهلون به وأن تعظوا من كان عارفاً وتخوفوه من الله عز وجل وتقولوا له إنك إن مِت على ذلك كنت خالداً مخلداً في نار جهنم إن على المرء أن يعلم أنه مسئول عن ما في ضميره ومسئول عن ما ينطق به لسانه ومسئول عن ما يفعله في جوارحه فاستمعوا إلى قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ﴾ [الطارق:10،9] واستمعوا إلى قوله تعالى: ﴿أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾ [العاديات:10،9] واستمعوا قوله عز وجل: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾ [ق:17-20].
أيها المسلمون، انظروا إلى هذه الآيات وتأملوا قوله تعالى: ﴿مِنْ قَوْلٍ﴾ فإن "قول" نكرة في سياق النفي متأكدة بمن فتفيد العموم في كل قول ثم تأملوا ما أعقبه به في قوله جل ذكره: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ [ق:19] لتذكروا سكرة الموت إذا أردتم القول وتذكروا يوم الوعيد فلا تقولوا ما يوقعكم في الوعيد واستمعوا قول الله: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار:10-12] واستمعوا قوله عز وجل: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ [النور:25،24].
فيا عباد الله إن شأن التوحيد لعظيم وإن الإخلاص فيه لدقيق ولهذا قال بعض السلف: ما عالجت نفسي في شيء معالجتها على الإخلاص فاجتهدوا رحمكم الله في تحقيق توحيدكم لله بإفراده بما ما هو أهله من صفات وبما يستحقه من تعظيم للعبادات، قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ [البقرة:235]، وقال جل ذكره: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:223] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كره ذلك من أشرك به وكفر وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشر الشافع المشفع في المحشر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب ومعشر وعلى التابعين لهم بإحسان ما بدأ الفجر وأنور وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد
أيها الناس فإن من أعظم منةٍ منَّ الله بها على عباده بل هي أعظم منةٍ منَّ بها على عباده لمن هداه إليها، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران:164] بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على "رأس الأربعين" (7) من عمره الشريف صلى الله عليه وسلم "فكان أول ما بعث كان لا يرى رؤية إلا جاءت مثل فلق الصبح" (8) "وذلك ابتداءً من ربيع الأول" (م1) ثم نزل عليه القرآن في رمضان لقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ﴾ [البقرة: 185] "فبقي ستة أشهر وكان الوحي يأتيه بصفة الرؤيا فكان لا يرى رؤية إلا جاءت مثل فلق الصبح" (م2) "أما ولادته فإنها كانت في ربيع الأول وكانت في الليلة التاسعة منه وليست في الليلة الثانية عشرة" (م3) ولا يهمنا أن تكون في الليلة التاسعة أو الثانية عشرة من شهر ربيع الأول إنما الذي يهمنا ما أحدثه فيها بعض المسلمين من إقامة الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخاذ تلك الليلة عيداً يحتفلون بها ويجتمعون صغاراً وكباراً رجالاً ونساء على صيغ صلوات يوردونها لم تكن مألوفة ولا معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه وينشدون ما كان غلواً في رسول الله صلى الله عليه وسلم غلواً يخرج به عن العبودية والرسالة إلى مرتبة الإلهية والربوبية ينشدون ما قاله الشاعر يخاطب النبي صلي الله عليه وسلم بعد موته بأزمنة يقول :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم(9)
هكذا يصفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفات التي لا يجوز أبداً أن تكون إلا لله عز وجل وإن في قولهم:
وإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
بهذا القول إنكار لربوبية الله لأنه إذا كان من علوم الرسول صلى الله عليه وسلم عِلم اللوح والقلم وكان من جوده الدنيا وضرتها وهي الآخرة فما الذي يكون لله عز وجل إنهم في هذا القول ينكرون أن تكون الدنيا لله أو أن الآخرة لله عز وجل وهذا كفرُ بواح لا شك فيه ومع ذلك يعتقدون أنهم بهذا القول يرضون الله ورسوله ويتقربون إلى الله عز وجل وهم والله بهذا القول مغضبون لله ورسوله وللمؤمنين جميعاً وهم لم يتقربوا إلى الله به فازدادوا به بعداً من الله عز وجل وإن الاحتفال بليلة المولد من البدع التي قال عنها رسول صلي الله عليه وسلم : "إياكم ومحدثات الأمور فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" (10) إذا كانت هذه بدعة وأقول إنها بدعة لأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يفعلها ولم يُقيمها وأقول إنها بدعه لأن الخلفاء الراشدين لم يفعلوها ولم يقيموها وأقول إنها بدعة لأن الصحابة بعد الخلفاء الراشدين لم يفعلوها ولم يقيموها وأقول إنها بدعه لأن التابعين لم يفعلوها ولم يقيموها وأقول إنها بدعة لأن تابع التابعين لم يفعلوها ولم يقيموها لقد مضت القرون المفضلة الثلاثة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (11) فأين تكون هذه العبادة إذا كان هؤلاء القرون لم يفعلوها أهم جاهلون بها أم هم عالمون ولكنهم استنكفوا عنها واستكبروا عنها كلا الاحتمالين باطل وبهذا يُعلم بطلان هذه البدعة وأنها لا تزيد فاعلها من الله إلا بُعداً فيا عباد الله يأيها المؤمنون بالله ورسوله إن كنتم تريدون حقاً محبة الله ورسوله وتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تُحدثوا في دينه ما ليس منه لا تشرعوا للناس أمراً لم يشرعه الله لهم لا في كتابه ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا من فعل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم إذا كنتم صادقين في محبة الله ورسوله وتعظيم رسول الله فتأدبوا بين يدي الله ورسوله لا تحدثوا في دين الله ما ليس منه فتكونوا ممن عصيتم الله عز وجل فإن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات:1].
أيها المسلمون إن كُل عبادة لا يمكن أن تكون مقبولة عند الله حتى يجتمع فيها مع الإخلاص لله عز وجل ستة أمور: وذلك بأن تكون موافقة لما جاء به الشرع في سببها وفي جنسها وفي مقدارها وفي كيفيها وفي زمانها وفي مكانها فإذا لم توافق الشرع في هذه الأمور الستة فإنها مردودة على صاحبها غير مقبولة منه كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(12) وإننا ولله الحمد في هذه البلاد بما منّ الله به علينا من علماء مخلصين مبينين للشريعة وحكام يساعدونهم في ذلك لا نجد هذه البدعة في بلادنا ولله الحمد ولكننا نسمع بها في بلاد المسلمين وفي بلادنا الآن من الأمة الإسلامية كثير ولهذا كان واجب علينا أن نتكلم فيها ليتبين لإخواننا هؤلاء أنها أعني الاحتفال بعيد ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم ليست من شرع الله وليست من دين الله بل هي بدعة وكل بدعة ضلالة وأرجوا منهم أن يكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأن يكونوا ممن يدعون إلى الله ويبلغون إخوانهم في بلادهم بأنها من البدع حتى يكونوا داخلين في قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت:33] واعلموا أيها المسلمون أن خير ما تعبدتم به وخير ما اتبعتموه كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار فعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار"(13) واعلموا بأن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل من قائل عليما: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد اللهم صلِّ وبارك على عبدك ونبيك محمد اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهراً وباطناً اللهم توفنا على ملته اللهم احشرنا في زمرته، اللهم اسقنا من حوضه اللهم أدخلنا في شفاعته اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين وعن زوجاته أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين اللهم ارضَ عنا كما رضيت عنهم يا رب العالمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين اللهم دمر أعداء الدين من الكفار والمنافقين اللهم احم حوزة الدين اللهم اجعلنا من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الداعين إليك على بصيرة يا رب العالمين اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم اللهم أصلح لولاة أمور المسلمين بطانتهم يا رب العالمين ﴿رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة:201] عباد الله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل:91،90] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم +وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ" [العنكبوت: 45].
-------------------------
المراجع(1) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، في مسند الشاميين، من حديث العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه (16519)، وأخرجه ابن ماجه رحمه الله تعالى، من حديث العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه، في كتاب المقدمة، باب اتباع الخلفاء الراشدين المهديين (43).
(2) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه في مسند بني هاشم (1742) ت ط ع من موسوعة الحديث.
(3) أخرجه الترمذي رحمه الله تعالى في سننه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في كتاب النذور باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله (1455) واللفظ له وأخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده (5799) ت ط ع.
(4) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده (18591)، وأخرجه ابن ماجه رحمه الله تعالى في سننه من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه في كتاب النكاح باب حق الزوج على المرأة (1843) ت ط ع في قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه.
(5) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهما (13041،12093) ت ط ع، وأخرجه النسائي في سننه الكبرى من حديث أنس بن مالك رحمه الله تعالى جـ6 ص70 (10077)، جـ6 ص71 (10078) ت م ش.
(6) انظر إلى هذه المقولة التي ذكرها الشوكاني رحمه الله تعالى في تفسيره فتح القدير عند تعليقه على الحديث "احثوا في أفواه المداحين التراب"(6) ذكر قول ابن هانئ الأندلسي شاعر المعز العبدي مخاطباً له جـ1 ص183 (225) ت م ش.
(7) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (3284)، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب الفضائل، باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه وسنه (4330)، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ت ط ع.
(8) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي (3)، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (231)، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنه ت ط ع.
(م1) انظر إلى هذه المسألة التي ذكرها الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية جـ2 ص261.
(م2) انظر إلى هذه المسألة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المرسلين في جـ1 ص18-20.
(م3) انظر إلى هذه المسألة التي ذكرها الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في كتابه البداية والنهاية جـ2 ص261، وكذلك انظر إليها في كتاب نور اليقين في سيرة سيد المرسلين الذي علق عليه شيخنا رحمه الله تعالى في ص6 لمؤلفه فضيلة الشيخ محمد الخضري بك المفتش بوزارة المعارف ومدرس التاريخ الإسلامي بالجامعات المصرية.
(9) انظر إليها في كتاب فتح المجيد جـ1 ص(215-401) قالها البوصيري في نظم قصيدة البردة، وفي كتاب تيسير العزيز الحميد جـ1 ص187، وفي فتاوى مهمة لعموم الأمة جـ1 ص47، وكتاب الغنية عن الكلام وأهله جـ1 ص48 ت م ش.
(10) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (1435) ت ط ع، وأخرجه النسائي رحمه الله تعالى من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه في كتاب صلاة العيدين من باب الخطبة في العيدين بعد الصلاة وكيف الخطبة (1560) واللفظ له ت ط ع.
(11) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أُشهد (2458)، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثم الذي يلونهم ثم الذين يلونهم (4601)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.
(12) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في كتاب الأقضية باب لنفي الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3243) ت ط ع.
(13) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، في مسند باقي الأنصار (22562)، والبخاري رحمه الله تعالى، في كتاب الجنائز (1272)، ومسلم رحمه الله تعالى، في كتاب الإيمان (35)، والنسائي رحمه الله تعالى في سننه، في كتاب الجنائز (2008)، عن سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله تعالى عنهما ت ط ع.
للذيادة والاستفادة ادخل للرابط التالي
http://www.ibnothaimeen.com/all/khot...icle_403.shtml