منها خلقتم وإليها ترجعون, وقد رجع الراحل الكبير الى الارض التي جاء منها "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"..
ووري الملك فهد الثرى, واحتسبناه عند الله, واستسلمنا لارادته, فهو صاحب اللوح المحفوظ, والآجال المكتوبة.
بعد ذلك ينهض الاحياء السعوديون من بعده الى مسؤوليات حياتهم دون ان ينسوا للحظة الايادي البيضاء للملك فهد.
وان يتذكروا دائما انه باني الدولة الحديثة وواضع انظمتها, وانه رجل التنمية في كل ميادينها العمرانية والاقتصادية والصناعية, وانه العلامة الفارقة التي عايشها العدو ويعرف مآثرها, وعايشها الصديق ويعرف انها اصل المزايا والمآثر.
ووري الملك فهد الثرى تاركا مملكة بحضور كثيف, وبإمكانات تضيق بها الحاجة الوطنية, وتفيض على سائر شعوب المنطقة, هذه الحقيقة الكبرى المتكونة من غياب الوجوه وبقاء الدول والاوطان, يعرفها جيدا خليفة السلف الملك عبدالله بن عبدالعزيز, بل ويدرك كيفيات التعامل والتواصل معها منذ عشر سنوات, اي من اليوم الاول الذي بدأت صحة الملك فهد تتراجع, وتمنعه من النهوض بالمسؤوليات الكاملة.. الملك عبدالله, بالظروف التي لازمته, وهي ظروف حكم, جاهز الآن للمواصلة وكأن شيئا لم ينقطع, والى المعني في اشادة البناء على قاعدة التراكم والزيادة, استكمالا لمسيرة المملكة, ولدورها, ولمسؤوليات الحكم في الداخل, وتوظيف الامكانات الكبيرة في الخارج, ولتأسيس ثقافة عالمية جديدة ترتوي من نموذج الاسلام الوسطي الذي يتجلى تشريعه والحكم بشريعته في هذه البلاد الطاهرة.
الملك عبدالله, بهذه الظروف التي احاطته لن يتواصل فقط مع سلفه الراحل, فيما يتعلق بمعنى ادوار المملكة ووجودها, بل سيتواصل مع نفسه, حيث كان الحامل لكل المسؤوليات في السنوات العشر الماضية قبل تسميته ملكا. واول امر له, يدلل على هذا التواصل الطبيعي, كان عزوفه عن اجراء تعديل وزاري, واصراره على ابقاء مياه الاستقرار السياسي هادئة. وطبيعي هنا ان نشاهد الاقتصاد في حركة تصاعد دائمة, وان نرى تحركاته الخارجية تنشط في كل الاتجاهات لتسويق الفرص في السوق السعودي, ولإقامة اقوى انظمة التعاون مع الدول, وفيما يخص الحرب العالمية المعلنة على الارهاب رأينا الملك عبدالله في طليعة المحاربين, وفي مقدمة اصحاب الحجة الذين تمسكوا بروح الدين, وبوسطية الاسلام, ونجح في التوفيق بين الاستحقاقات الدولية والخصوصية السعودية, حيث جعل من وسائل المحاربة وسائل يختص بها كل مجتمع, وبرامج الاصلاح برامج متميزة بالتطبيقات الاختيارية, وليس بالفرض والاملاء.
يبقى عهد الملك عبدالله والمرحلة القادمة التي ستلازمه, فهو بلا شك سيكون عهدا استطراديا في النماء والنهوض والسعادة, وستكون المرحلة الملازمة مرحلة استقرار عميق, لوجود الامكانات لضمانها, ولوجود القيادة المتميزة بسرعة القرار وقوة التنفيذ.
امس, والملك فهد يوارى الثرى, تبدى هذا المشهد امام كل الانظار, وكان طبيعيا ان تترافق معه مشاعر التفاؤل بالايام السعودية الآتية, وفي ظروف غياب ملك ومجيء ملك جديد.ومرجع هذا التفاؤل يعود الى معايشة الملك عبدالله في السنوات العشر الماضية, واختبار اسلوبه في الحكم, ويعود ايضا الى الوضع الاقتصادي الذي يمتاز بالقوة ووجود الفوائض, والنشاط.ما عدا ذلك كانت هناك غيمة الحزن المخيمة على الاجواء, وهو حزن بذل وفاء لذكرى الراحل الكبير, وبإرادة القلب, ولم يكن حزنا نابعا من الخوف على المستقبل, او من تداعيات الرحيل التي ثبت انها لم يكن لها وجود.. في السنوات العشر الماضية عايشنا البصمات الواضحة للملك عبدالله بن عبدالعزيز, وهي بصمات شعر بها الشعب السعودي, والشعوب العربية, وشعوب العالم,وامتازت بالسلاسة والحزم وغياب اللغط واللغو عنها.
وبوجود رؤية الحكم وادوات السياسة الواضحة, وخبرة التعامل والتواصل, بالامكان الثقة بالمستقبل وايامه الآتية, والتوقع بأن امام الملك عبدالله مهمات تكاملية في الدور السعودي, ومعنى وجود المملكة, الروحي والسياسي والاقتصادي, لن تكون سهلة في اوضاع عالم يموج برغبات التغيير والاصلاح, واوضاع عالمية مضطربة مشحونة بالارهاب وبثقافات التطرف والاقصاء والتكفير. وفي هذه المهمات الصعبة لن يكون الملك عبدالله لوحده, بل معه الشعب السعودي, والشعوب العربية وكل شعوب هذا العالم التي اصبحت تتوق الى الامن والاستقرار والتصالح الحضاري.
أحمد الجارالله
نقلا عن صحيفة السياسة الكويتية
رد مع اقتباس
