في عام 1901اكتشف ثلاثة غواصين سفينة شحن إغريقية غرقت تحت البحر منذ 2000عام. وبسبب سقوطها في بقعة عميقة (قرب جزيرة انتيكياثرا اليونانية) سلمت من عبث الصيادين طوال هذه الفترة. ورغم أنها كانت محملة ببعض الذهب والفضة إلا أن أهميتها نبعت من كونها (سفينة شحن) حوت كل ما يمكن استخدامه في ذلك الوقت..
الشيء الوحيد الذي لم يفهم أحد هويته - أو الهدف من صنعه - آلة معدنية متآكلة تضم عددا كبيرا من التروس والمسننات. وحين أرسلت الى المتحف اليوناني في أثينا (حيث توجد حتى اليوم) عرضت على أنها ساعة شمسية قديمة. وظل هذا الاعتقاد سائدا حتى عام 1959حين أعيد تركيب التروس المفقودة ورؤية هيكلها الداخلي بأشعة أكس فاتضح أنها (كمبيوتر فلكي) متعدد الاستخدامات!!

وبعد اكتمال الشكل النهائي لهذه الآلة المدهشة أتضح أنها بنيت كخزنة حديدية تضم بداخلها عددا كبيرا من التروس المعدنية (تشبة التروس المتشابكة داخل الساعات اليدوية).. أما وجه الخزانة فنحت عليه "مدارات فلكية" تطوف عليها مؤشرات معدنية (يمكن تشبيهها بعقارب الساعة التي تدور على طرف المينا المدرج).. وهذه المدارات لا تمثل فقط مسارات الشمس والقمر والنجوم والأبراج، بل ومواقيتها ومواقعها في أي يوم من العام..

وكان مجرد تحريك عتلة صغيرة (بجانب الخزنة) يدير التروس الداخلية ويوضح مواقع القمر والشمس والنجوم في اليوم المطلوب.. وكلما تمت إدارته الى الأمام أكثر كلما أظهرت مواقع القمر والنجوم والأبراج في أي وقت بالمستقبل!!

... هذه النوع من الأجهزة يعرف بال "كمبيوترات الميكانيكية" (وتعتمد غالبا على تفاوت أقطار التروس لإظهار العلاقات النسبية المختلفة).. ويمكن رؤية نموذج لها بفتح أي ساعة يدوية والتأمل في دوران التروس داخلها بسرعات متفاوتة - بحيث تعطي مؤشرات مختلفة - كالثواني، والدقائق، والساعات، والأيام، والشهور..

ورغم أن الفكرة بحد ذاتها ليست جديدة إلا أن "كمبيوتر انتيكياثرا" يعد فريدا من عدة نواحٍ:

@ فهو يشكل دليلا على مستوى التقنية المتقدم زمن صنعه (قبل مائة عام من الميلاد).

@ كما يدل على تقدم المعرفة الفلكية ذاتها وفهم العلاقات المعقدة بين الأجرام السماوية المختلفة.

@ كما يعد فريدا من حيث جودة السبائك ودقة الصنعة وبراعة التطبيق العلمي...

... أما السؤال الذي يطرح نفسه فهو:

لماذا توقف تراكم المعرفة منذ ذلك الوقت!؟.. وهل ورث الأغريق هذه التقنية من حضارات مجهولة بالنسبة لنا!؟.. وحين تتحول معرفة كهذه الى سلعة شعبية (تنقل بسفينة شحن) ألا يحق لنا التساؤل عما تعرفه الصفوة العلمية!!؟... فتقنيات التروس السابقة لم تظهر مجددا إلا بعد ألف عام من صنع تلك الآلة (.. حيث عثر على كمبيوتر فلكي مماثل صنع في بغداد قبل 1100عام وضم 8تروس فقط)..

أما المعارف الفلكية نفسها فتدهورت بالتدريج لدرجة اعتبرت الأرض مركز الكون - وروما مركز الأرض - في القرون الوسطى..

أما العلاقات النسبية بين مسارات النجوم والكواكب البعيدة فلم يتم فهمها بشكل مُرضٍ قبل النصف الثاني من القرن العشرين!!

... بدون شك "كمبيوتر انتيكياثرا" يرجح فكرة ظهور الحضارات البشرية في موجات متعاقبة (حين تختفي إحداها بلا وريث ؛ يبدأ غيرها بالصعود من الصفر)..

وحين نتأمل كيف أن معظم تقنياتنا الحديثة (كالكمبيوتر وشريحة السيليكون) لم يتجاوز عمرها المائة عام ؛ أتساءل أين كنا سنصل لو استمر "تراكم المعرفة" منذ 2000عام!