الممارسة النقدية في مواجهة التقليد

توصف المجتمعات العربية بأنها مجتمعات تقليدية في بناها الذهنية العامة، تلك البنى التي تصوغ لها الرؤى، وتحدد لها المسارات، وتخلق لها الانطباعات؛ على مستوى الوعي واللاوعي. ولا جدال في أن مجتمعنا المحلي من أشد هذه المجتمعات العربية تلبسا بالتقليد واتصافا بالتقليدية؛ إلى درجة يكاد التقليد أن يكون معها هوية لنا، أو هكذا يراد له أن يكون.
نحن موغلون في التقليد؛ وفي استبطان الروح السلفية التي ترى في النكوص، بل وفي اجترار النكوص - كآلية وعي بالوجود والإنسان - تقدما!؛ بوصفه - في التصور السلفي - تقاربا مع المثال، وتماهيا مع المتعالي. نحن - من حيث البنى الذهنية المهيمنة - تقليديون؛ رغم القشرة الحضارية التي نتزيّا بها، ونزخرف بها عالم الفكر وعالم الواقع؛ كي نقنع أنفسنا بأننا ظفرنا بكلا الحسنيين: أصالة الماضي، وحضارة الحاضر!.
المجتمع التقليدي بطبيعته مجتمع شمولي كلياني، يرفض التجاوز، ويكره الخروج على أنساقه؛ لأنها أنساق متجذرة عبر تاريخ طويل من التكرار والاجترار والممارسة الطقوسية في الاجتماعي. الجديد في هذه الحال البائسة ليس جديدا، وإنما هو بدعة ونشاز واختراق وإفساد. الاستئناس بالمكرور، والاعتياد على المألوف، وكراهة المغايرة والاختلاف، سلوك تقليدي بامتياز.
إشكالية المجتمعات الكُليانية، أنها متخمة باليقينيات، والمسلمات، والثوابت، والأصول، والقطعيات، والنهائيات. كل شيء قد كمل، ومن ثم لا يحتاج إلى إضافة، ولا إلى تجديد، فضلا عن النقد والمساءلة. الحلول جاهزة لكل شيء، وذلك في صيغ نهائية، تبرع بها الأوائل مشكورين؛ كي يكفونا مؤنة البحث والخلق والابتكار. و"حسبكم فقد كفيتم"!؛ قالها الأسلاف العظام.
في تصور كهذا؛ مغرق في يقينياته؛ تستحيل المغامرة النقدية. لماذا النقد؟، ولماذا التجديد؟، ولماذا محاولة اجتراح الحلول؟!. ما معنى الممارسة النقدية في مجتمع يتكئ على منظومة إسلامية؟!. وهي منظومة كاملة من حيث التنظير ومن حيث التطبيق؛ لأن الإسلام دين كامل!.
ما العلاقة بين كمال الإسلام كدين سماوي، والحصانة المُدّعاة التي يهبها المجتمع لتنظيره الفكري المتماهي مع الإسلام (وهو منتج بشري)، ويهبها لنفسه أيضا؛ لمجرد أنه (اجتهد!) في تطبيق تنظيره الاجتهادي؟. سؤال نقدي إشكالي، لا يطرحه التقليدي؛ لأنه فوق طاقته المعرفية، ولا يريد لأحد أن يطرحه؛ لأنه يفضح المنظومة كلها، ويكشف زيف غرورها، لا في واقعها المعاصر فحسب، وإنما في عصورها التاريخية كافة.
إذا أضفنا إلى ذلك أن مفهوم النقد ذاته - مهما كانت نوعية ممارسته - خاضعا لطبيعة التلقي التقليدي لهذا المفهوم، ولهذه الممارسة، عرفنا صعوبة النقد، وثمن التضحية. المجتمع التقليدي كمنتج لمنظومة التقليد، لا يفهم النقد إلا بوصفه هجاء وقذفا. صحيح أن في الممارسة النقدية مستوى أدنى من الهجائية؛ لا يمكن الانعتاق منه. لكن، هذا المستوى ليس مبررا لنقل الممارسة النقدية الموضوعية من مفهومها (التشخيصي) إلى مفهومها (الهجائي).
تشخيص العلل والأدواء بدقة وموضوعية، وتحديد أعراض المرض الظاهرة والممكنة، والتنبؤ بمستويات الصحة والاعتلال، يفهمها المريض على أنها أجل خدمة تقدم له، وأهم خطوة في طريق الشفاء. لكن، قد يوجد مريض يعاني ارتفاعا في درجة العته، فيعد هذا التشخيص هجاء لشخصه الكريم، بحيث يستدعي الغضب والاستنفار، بدل الشكر والامتنان. لكن، هذا السلوك الغبي في التعامل مع التشخيص؛ لا يحدث إلا عند جماعة المعتوهين، ومن لا يتجاوزون المباشر والظاهر في التعاطي مع الحياة والناس.
هذا الفهم الذي يحوّل الممارسة النقدية الموضوعية من مفهوم التشخيص إلى مفهوم الهجاء، هو سبب ما نعانيه من ارتياب المنظومة التقليدية في كل ممارسة نقدية، تمسها من قريب أو بعيد. وبطبيعة الحال، فمجتمع لا يفحص نفسه، ولا يسمح بإجراء الفحص، مجتمع معرض للانقراض والتلاشي، ليس على مستوى المعنى ونوعية الوجود، ولكن، قد يحدث ذلك على مستوى الوجود المادي المتعين.
ولأن التقليدي ينطوي على ذاتية متنرجسة، فإنه يمد هذا التنرجس إلى كل ما يمت له بصلة، ومنها تراثه العريق، وعاداته التي هي عادات الكرام، ومعدن الأصالة، وعلومه هي محض اليقين. إنه كالمريض الذي يدعي الصحة، ولا يريد أن يصدق بمرضه، ولا أن يعترف به؛ لأنه يظن أن وجود المرض مرتبط باعترافه، وما دام لم يعترف، فالمرض غير موجود، ولا يتصور أن الاعتراف بوجود المرض، هو الخطوة الأولى نحو الشفاء.
قد يتسامح التقليدي مع الممارسة النقدية التي تتناول ظواهر الأشياء في وجودها المتعين. لكنه لا يتسامح مع النقد المعرفي الذي يتجاوز الظواهر إلى الأنساق الثقافية، أو الذي يفكك بنية المعرفة، ويكشف عن مراوغة الخطاب، ولا معقوليته الكامنة في ادعاء المعقول؛ لأن مثل هذا النقد، كفيل بإجراء تحولات كبرى في مجرى الخطاب. وهذا ما لا يمكن أن يقبل به التقليدي؛ لأنه يصبح خطابا في التغيير، ولا وجود للتقليدي في هذا السياق...

منقول من الصحافه المحليه لأهميته النقديه والموضوعيه ... الخميس 27 رمضان ...