القــلوب المشفقة هي التي تخشع في العبادة، وترق عند الطاعة، وتخبت عند المــناجاة، وتنكسر عند التـضرع، إنها قلوب حاضرة، تكون مع كل عبادة روحـها وحقيقتها، " فالخشوع هو قيام القلب بين يدي الرب بالخــضوع والذلّ " ، وهو "انكسار القلب وإخباته وتواضعه لله عز وجل وذلتـه، وسكون الجــوارح من أجل ذلك"
"اعــلم – رحمــك الله - أن الخشوع روح الصلاة وحياتها، ونورها وضــياؤها، وبه تصعد إلى الملأ الأعلى، وتنــهض في السماوات العلى "فالقلوب الخاشعة تتبعها الأذهان الــحاضرة، وتسكن معها الجوارح العابثة، قال ســعد بن معاذ: " ما كنت قط في صلاة فشغلتُ نفسي بغيرها حتى أقضيها"، وعلى سنن الصــحابة مضى التابعون فأُثِر عن الربيع بن خثيم أنه قال: " ما دخلت قط في صلاة فأهمني فيها إلا ما أقول وما يقال لي " ، وقيل لعامر بن عبدالله بن قيس: أتحدث نفسك بشيء في الصلاة ؟، قال: نعم، بوقوفي بين يدي الله عز وجل، ومنصَرفي إلى أحد الدارين، فقيل له: لا، إلا بما نحدث به أنفسنا من أمر الدنيا، وما يوسوس به الشــيطان إلينا، فقال: لأن تختلف الأسنة (الرماح) في صدري أحب إلي من ذلك " ، لله درّ القوم وقد تعلقت بالــصلاة قلوبهم وعقولهم وأجسادهم.
إن الله ربط مدح المصــلين بخشوعهم حين قال: { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } [ المؤمنون:2]، "والخــشوع في الصلاة: هو حضور القلب بين يدي الله تعالى، مستحضراً لقربه، فيــسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقل التفــاته، متأدباً بين يدي ربه، مستحضراً جميع ما يقوله ويــفعله في صلاته، من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفــكار الردية، وهذا روح الصلاة، والمقصود منها، وهو الذي يكتب للعبد، فالصــلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلــب، وإن كانت مجزئة مثاباً عليها، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها" ، "فعليك - رحمك الله – أن تحضـر قلبك في صلاتك جهد استطاعتك ومبلغ طاقتك، وألا تـصرفه ها هنا ولا ها هنا، وألا تمر به هكذا ولا هكذا، وأن تدفع عنه الـخواطر المائلة به، والأحاديث الشـاغلة له، وأن تسمع ما تقرأ، وتعقل ما تفعل، فإنه ليس لك من صـلاتك إلا ما عقلت ولا يكتب لك منها إلا ما فيه حضـرت" ، فأين قلوبنا في الصلاة ؟
سابحة في بحار الدنيا، غارقة في هموم الحـياة حتى لا تكاد تعقل من صلاتها شيـئاً، يَقُولُ النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا تُسْعُهَا ثُمُنُهَا سُبُعُهَا سُدُسُهَا خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا ) [ رواه أحمد ] ، اللهم رحمتك وعفوك.
أخــي الحبيـــب :
هل هذه الصلاة يـصلح أن نقف بها بين يدي الله ؟ وهل هي التي يرضى عنهـا الله ؟ وهل هي التي يـصح أن نرفعها إليه ؟
" قال بعض السلف : الصـلاة كجـارية تُهدى إلى ملك الملوك، فما الظن بمن يُهـدي إليـه جارية شلاّء أو عوراء أو عمـياء أو مقطوعة اليد والرجل أو ذميمة أو قبيحة حتى يُهدي إليه جارية ميتـة بلا روح .. فكيف بالصلاة يهديها العبد ويتـقرب بها إلى ربه تعالى، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وليس العمل الطيب صلاة لا روح فيها "
أخي الحبيب :
" إذا قمت إلى الصـلاة فتذكر من أنت إليه قائم ، وبين يدي من أنت واقف، واعتقد نفي ما يـجري عليك من الخواطر المذمومة، فإذا فرغت فاستغفر الله عز وجل، فإنه سبحانه يقبل العــقد الأول والآخر، ويغفر ما بينهما برحمته تبــارك وتعالى " ، " وكما يجب ألا تصرف وجهك عن قبلتك في صلاتك، فــكذلك لا تصرف قلبك عن ربك " .
أخــي الحبــيب :
استحضر عظمة ربك، وتدبر في صلاتك في كلماتها ومقاماتــها وحركاتها من أولها إلى آخرهــا واعلم أنه " ينـبغي للعبد إذا قال في صلاته ( الله أكبر ) عند افتتاحها، أن يكون ذكر الله في قلــبه أكبر وأعظم من أن يذكر معه سواه، أو يخــلط بذكره بذكر شيء من دنياه إجلالاً له وتعظيماً " ، فإن معنى تكبيرة الإحرام " أن الذي يقوم إلى الــصلاة إذا كبر تكبيرة الإحرام فقد حرّم على نفســه كل ما كان مباحاً له قبلها من الاشتغال بالدنيا ومعاشها، وما كان فيه من مخــالطة أهلها "، " وأما من كان في صلاته مقبلاً على سهوه وغفلاته، فليس لصلاته تحريم، ولا لمــناجاته حين يناجي ربه فيها تعظيم "
"كان ابن الزبير إذا قام إلى الصــلاة كأنه عود " ، " وكان علي بن الحسين إذا قام إلى الصلاة أخــذته رعدة، فقيل له، فقال: تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي، وكان إذا توضأ أصفر " ، ومثله " كان وكيع إذا قام إلى الصلاة ليس يتحرك منه شيء، ولا يزول ولا يميل على رجل دون الأخرى " ، "وقيل عن محمد بن نصر المروزي: ما رأيت أحــسن صلاة منه، وبلغني أن زنبوراً قعد على جبهته فسال الدم على وجهه ولم يتحرك .. ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخــشوعه وهيئته للصلاة، كان يضع ذقنه على صدره فينتصب كأنه خشبة منصوبة " ، ولعلك لا تعجب حينئذ من قول "سفيان الثوري: لو رأيت منصور بن المعتــمر يصلي لقلت: يموت الساعة " ، ولا من قول " أبو بكر بن عياش : رأيت حبيب بن أبي ثابت يصلي وكأنه ميت - يعني من خوفه وخــشوعه " لأن القوم قد ملأ الخشوع قلوبهم فسكنت جوارحهم.
ولا عجب من ذلك فقد سبقــهم إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصاياهم وأعمالهم، فهذا جندب بن عبدالله يقول :"وإذا وقفتم بين يدي ربكم للصلاة فاجعلوا الجنة والنار بين أيديكم والميزان والصراط حولكم كأنكم تقولون : { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } ، وهذا "الفاروق عمر رضي الله عنه غلبه البكاء في صلاة الصبح حتى سمع نحيبه من وراء ثلاثة صفوف "
والجميع مقتدٍ برسول الهدى صلى الله عليه وسلم مستــضئ بهديه فقد " ذكر مالك في الموطأ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ أَهْدَى أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمِيصَةً شَامِيَّةً لَهَا عَلَمٌ فَشَهِدَ فِيهَا الصَّلَاةَ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : ( رُدِّي هَذِهِ الْخَمِيصَةَ إِلَى أبِي جَهْمٍ فَإِنِّي نَظَرْتُ إِلَى عَلَمِهَا فِي الصَّلَاةِ فَكَادَ يَفْتِنُنِي ،وذلك" لتقتدي به في ذلك أمته، يتفرغون لصلاتهم بترك ما يشغلهم عنها، ويفتنهم فيها وهذا أصح والله أعلم "
أخــي الحبيــب :
" إذا خشع قلبُك وحضر انطرد وسواسك، وقصُــر عليك من الصلاة ما طال على غيرك " ، وقد رأيــت صلاة القوم وخشوعهم وسكونهم ودموعهم، فإنه وإن كانت أجســادهم قائمة وراكعة وساجدة فإن قلوبهــم مصلية، هكذا كانوا ..
فهـــل نكـــون ؟ .